أفلت من مستنقع الكيزان-:
——————————–
رجل يستطيع إصلاح العالم
(1)
• بالأمس رأيت، من نافذة الحافلة ، صديقي القديم(ع) يمشي قاطعاً طريق الأسفلت ، عرفته بصعوبة ، فقد كان يرتدي جلباباً “مكرفساً” و ينتعل “سفنجة” ، و يمشي عاري الرأس .. لم اصدق عيني أول الأمر ، فـ(ع) آخر من يمكن تصوره على تلك الهيئة البائسة ..
قررت النزول فوراً و اللحاق به .. فبرغم ما جرى بيننا قبل خمس سنين “آخر مرة التقينا فيها” فقد عزت عليّ صداقة امتدت منذ أيام الصبا ، منذ ما يقارب نصف القرن ، أيام كنا تلميذين يجلسان متجاورين، في أحد فصول السنة الأولى بالمدرسة المتوسطة ..
(2)
• في أول يومٍ لي بالمدرسة المتوسطة، كنت سائراً نحو المدرسة التي قيل لي إنه تم قبولي بها ، حين رأيت، في طرف سوق الحي ، عجوزاً متسولة تجلس مادةً يدها دون كلام .. كان وجهها وحده الذي ينطق بكل تفاصيل المأساة، كان يجلس على مقربة منها غلام في مثل سني ، يرتدي ملابس المدرسة ، كان ينظر إليها و يبكي.. قلت في نفسي (لعله ابنها أو حفيدها).. و لكن مظاهر النعمة التي كانت تبدو على ملابسه و إهابه جعلتني أُبعد هذه الفكرة .. سرت ناحيته و سألته ما إذا كانت هنالك مشكلة أستطيع حلها ؟ قال لي ، من بين دموعه ، مشيراً ناحية العجوز : (تصور أن هذه جدتك .. لا تجد شيئاً تأكله .. ألا يخجل كل هؤلاء الناس حين يرون امرأة في مثل هذه السن تضطر إلى التسول ؟) .. كان يبدو منفعلاً بقضيّة العجوز و كأنه لم ير في حياته عجوزاً تتسول .. قلت لهُ إن البكاء لن يجديها شيئاً .. تعال نعطيها نصف مصاريف إفطارنا ، فقال لي : لقد ألقيت إليها بكل ما أحمل من مال ، و لكن .. هل تكفيها مصاريف إفطارنا الزهيدة لأكثر من يوم؟.. قلت له : إذاً ، دعنا نذهب و نفكر في حل أفضل لها .. هيا .. ألست ذاهباً إلى المدرسة؟
• كان هذا الصبي يقصد ذات مدرستي ، و كان جديداً مثلي ، وحين تم توزيعنا على فصول السنة الأولى “وكان بالمدرسة نهران” كنا في ذات الفصل ، جلسنا متجاورين.. و قد اتفقنا يومها ، حين خرجنا لتناول الإفطار، أن نفعل شيئاً لتلك العجوز أجدى أثراً من نصف مصروف تلميذين .. كان في يومه الأول ضيفاً عليّ ، بعد أن تنازل للعجوز عن مصروف إفطاره.
• سرعان ما أفلح (ع) في إقناع عدد من التلاميذ الأيسر حالاً ، الذين كانوا يشاركوننا الإفطار لدى فوّال يجاورُ دكانه المدرسة ، بالتنازل عن نصف مصروف إفطارهم يومياً ، و أخبرهم بحكاية العجوز التي تشبه جدّته.. و كان بارعاً في تدبير إفطار يكفينا بالنصف الباقي من مصروف إفطارنا..كنا اثني عشر في البداية (خلال شهر واحد بلغ عددنا أكثر من نصف تلاميذ الفصل)، و خلال ذات الشهر اختفت العجوز من طرف سوق الحي، بعد أن صحبها (ع) إلى عشّتها البائسة في طرف الحي ، و التي تسكن فيها مع ابنة لها مريضة.. كان ما يحمله (ع) إليها بعد انتهاء دوام المدرسة يومياً يكفيها و ابنتها ذل التسول.. و كانت دعواتها لصديقي تجعلني أحسده.ثم ظل (ع) منفعلاً دائماً بحال البؤساء الذين يلقاهم من الناس ، المتسولين و فقراء الحي.. و ابتكر الكثير من الوسائل التي يساعد بها أهل الحاجة، و كان – مع ذلك – دائم الإحساس بتقصيره..
(3)
• امتدت صداقتنا طوال سني دراستنا بمراحل التعليم بل امتدت إلى ما بعدها.. وحين كنا بالمرحلة الثانوية جاءني (ع) يوماً يشكو لي من أنه غير راض عن التزامه الديني ، حيث كان كثيراً ما يضيع مواقيت الصلاة، و أنه حاول كثيراً أن يحمل نفسه على الالتزام فلم يستطع (لم أكن أفضل منه حالاً، و لكنه كان أكثر اكتراثاً مني بهذا الأمر).. قلت له إن دعوات الناس الذين يساعدهم لن تضيع ، و سيصلح الله حاله.. و بعدها بأيام جاءني فرحاً ليحكي لي حلماً غريباً ، تكرر معه عدة أيام ، وظل يصحو بعده دائماً .. قال إنه يرى في النوم شيخاً مهيب الطلعة ، أبيض اللحية ، يأمره قائلاً : قم يا (ع) فصلِّ صلاة الليل .. فيجد نفسه و قد صحا من نومه والليل في منتصفه ، فيقوم و يصلي ما شاء الله له ثم يرقد ، ثم يأتيه ذات الهاتف عند وقت صلاة الفجر ..
• رأيت صديقي بعدها و قد أصبح يؤدي جميع صلواته بالمسجد .. ولكن ما حيرني بعدها ، أن اهتمامه بأصحاب الحاجة و الضعفاء قد بدأ يقل .. لم يعد يحدثني كل صباح عن فظاظة المجتمع الذي لا يهتم بجوع الجائعين وما عاد يقترح عليّ طرائق لإصلاح بيت جارهم الذي هدمته الأمطار ، أو لتوفير الدواء لجدة صديقنا اليتيم الذي لا يستطيع توفير الدواء لجدته ، أو توفير الطعام لأسرة رجل مسجون بحيهم لا عائل لها غيره .. و حين مررنا ذات نهار بشيخٍ مهترئ الثياب بئيس الهيئة يلتقط من صندوق القمامة شيئاً و يأكله، قمت بلفت نظره إليه ، فقال لي بلا مبالاة : لن نستطيع إصلاح العالم ..
(4)
• بعد أكثر من عشرين عاماً ، كان صديقي (ع) قد أصبح أحد وجهاء المجتمع ، بعد أن انتمى إلى حزبٍ سياسي احتكر السلطة في البلاد .. و أصبح من واجهات الحزب .. ثم سرعان ما أصبح من كبار أثرياء البلد .. كان ما يزال يحافظ على صلواته جميعاً بالمسجد ، بل أصبح إماماً لأحد المساجد ، و كان كثيراً ما يخطب في المناسبات السياسية، بفصاحة و براعة تحمل الكثيرين من سامعيه ، سواءً في المسجد أو في الليلة السياسية ، على البكاء أو الهتاف ، و ترديد التكبير و التهليل وراءه.. و كنت طوال هذا الوقت أعالج إحساساً ثقيلاً بأن صديقي الذي أصبح يحمل لقب “الشيخ” (ع) لم يعد ذلك الذي أعرفه ، برغم أنه لم يغير سلوكه تجاهي ، بشاشة اللقاء و الكرم الفياض، و زيارتي بالمنزل أحياناً ، و السمر معي حول أيام صبانا ..
• في آخر لقاءٍ بيننا ، قبل حوالي خمس سنوات ، كنت أزوره بمكتبه ، سألته يومها عن حكاية “التحلل” هذه التي جرت في إحدى وقائع الفساد المعروفة .. فقال لي بلا مبالاة إنه إجراءٌ(لا غبار عليه ).. لم يدهمني حزنٌ فاجعٌ من قبل كما دهمني ساعتها .. وجدتُني أصرخ في وجهه : يا (ع).. أتذكر الهاتف الذي جاءك ، حين كنا بالمدرسة الثانوية ، ليأمرك بقيام الليل و صلاة الفجر ؟
• قال لي : نعم أذكره ، ماله ؟
• قلت له : يومها كنتُ أظنه “ملكاً كريماً” بعثه الله لهدايتك .. لكن تبين لي الآن أنه كان شيطاناً !!..
• قال ، متصنعاً الاندهاش : كيف يأمر الشيطان بالصلاة و قيام الليل ؟
• قلت له : هذه كانت مرحلة أولى ، في عملية طويلة و خبيثة ، دبرها لك الشيطان بلا شك .. لقد أمرك بقيام الليل و صلاة الفجر ليس لله ، بل ليأتيك بعد ذلك و يقول لك : من يطيع الله مثلك ؟ تقوم الليل و تؤدي الفجر و جميع الصلوات حاضرة بالمسجد .. ها أنت اليوم أفضل العابدين .. إفعل ما شئت فقد غفر الله لك..
• خرجت من عنده غاضباً يومها ، قلت له إنني الآن قد فقدتُ أفضل أصدقائي إلى الأبد .. لم ألقه بعدها ، إلا أمس ، حين رأيته بالحال التي وصفتها .. منتعلاً سفنجة ، لا بساً جلباباً “مكرفساً” و قاطعاً طريق الأسفلت. نزلت من الحافلة أعدو خلفه منادياً ، بعد أن عبر شارع الأسفلت ، التفت ناحيتي مدققاً النظر .. ثم ارتمى عليّ معانقاً ، و دموعه تبلل كتفي .. و هو يردد من بين شهقاته : نعم .. كان شيطاناً .. كان شيطاناً ..
(5)
• أخذت (ع) إلى “كافتريا” قريبة ، لأعرف منه ما الذي جرى له ليمشي راجلاً و في قصره أسطول من فاره السيارات؟ أو يمشي بهذه الهيئة البائسة وهو أكثر الناس أناقة و أفخمهم ثياباً ..قال لي :
– أتذكر آخر ما قلته لي ، قبل خمس سنوات؟
– نعم ، أذكر ، ما الذي جرى بعدها ..
– لقد ظلت كلماتك تطن في أذنيّ بحيث لم أعد أسمع غيرها ، و في تلك الليلة لم أستطع النوم ، و حين يأتيني النوم أصحو مفزوعاً على صدى كلماتك .. أصدقك القول الآن يا أخي .. ما قلته كان حقيقة .. لقد ظننت أنني بقيام الليل و الصلاة بالمساجد و بالنوافل الكثيرة ، تميزت عن الآخرين .. غمرني منذ يومها إحساس بأن الله لن يضلني أبداً ، و لن يعذبني ..
– ثم ماذا ؟
– كان يمكنني أن أنسى الأمر و أعود إلى سابق عهدي .. ولكن .. حين خرجت صباح اليوم التالي من الفيلا التي بنيتها بالحي (س).. لقيت أمامي ، وجهاً لوجه ، حواء..
– من حواء هذه؟
– حين اشتريت أرض الفيللا الجديدة ، ذهبت لمعاينتها قبل البناء ، فوجدتُ فيها “عشَّة” تشوه منظرها ، ذهبت إليها فوجدتُ فيها عجوزاً و ثلاثة صبية قذري الهيئة و فتاتين .. قالت لي العجوز إن اسمها حواء ، و إنها جاءت إلى هنا قبل أكثر من عشرين عاماً من الغرب أيام “المجاعة” فبنت عشتها هذه ، و أن هؤلاء الصبيان الثلاثة و الفتاتين هم أبناء ابنتها التي توفيت ، و أنها تنفق عليهم من ريع بيع الشاي في سوق الحي القريب..
– أها ..
– تصور إنه لم يكن يهمني في تلك اللحظة أن أعرف شيئاً عنها و لم يكن يعنيني ما تقوله .. كان الشيطان يقول لي : لن تستطيع إصلاح العالم.. كان ما يعنيني هو ما قلته لها : (هذه أرضي و أريد أن أبنيها، يجب أن تأخذي عشتك هذه إلى مكان آخر، و إلا سوف يتم جرفها بالبلدوزر..) قلتها و أعطيتها ظهري ،دون أن أعير التفاتاً نظرتها الحزينة الصامتة ..
– و ماذا قالت لك حين لقيتها صباح ذلك اليوم
– لم تقل شيئاً ، كانت كلماتك ما تزال تطن في خاطري ، خرجت و امتطيت سيارتي ، عند خروجي من الفيللا كانت تقف في الجانب الآخر من الشارع ، تنظر إليّ ذات نظرتها الحزينة يوم أن أمرتها بالرحيل..
– و ما الذي أهمك من هذا؟
– لا أدري .. تذكرت فجأة ، تلك العجوز المتسولة .. أتذكر يوم التقينا أول مرة ، ذاهبين إلى المدرسة المتوسطة ..
– نعم أذكر .. العجوز التي كنت تجلس باكياً بجوارها ، و التي قلت إنها تشبه جدتك..
– نعم .. كانت تشبهها كثيراً .. لا أدري ما الذي حملني على أن أوقف السيارة أمام الباب ، ثم أعبر الشارع و أذهب إليها .. وقفت أمامها صامتاً، كان قد مر على رحيلها أكثر من خمس سنين .. و مرّ شريط الأيام الخوالي أمامي ، أيام كنت أحمل إلى عشة العجوز المتسولة ما نجمعه من التلاميذ .. سألت نفسي فجأة : هل أنا ذلك الصبي نفسه ؟.
– و بماذا أجابت نفسك؟
– قالت لي : لا .. أنت مسخ مشوه .. أنت جماد لا قلب له ..
– أها..
– كأنني استيقظت فجأة من نومة استمرت عشرات السنين .. عدت إلى السيارة أنظر إلى وجهي في مرآتها.. اكتشفت أنني لا أعرف هذا الوجه .. كان لا بد لي من فعل شيء..
– ماذا فعلت؟
– (تحلّلت) من جميع ما أملك..
– كيف؟
– .. بعت الفيللا ، و البيتين السابقين ، وسياراتي الثلاثة .. أودعت أثمانها بحساب إحدى الجمعيات الخيرية ، بعد أن اشترطت عليها أن تبني بها مساكن شعبية لأمثال حواء .. و قدمت استقالتي للحزب .. و عدت إلى بيتنا القديم الذي كنت تأتيني فيه أيام المدرسة ..
– و كيف تعيش؟
– تعلم إنني درست هندسة المعمار .. بحثت عن عمل يوافق مؤهلاتي ، زملائي السابقين بالحزب أصبحوا ينظرون إليّ كعدو ، لهذا ما إن أتقدم لوظيفة في مؤسسة عامة أو خاصة ، حتى أكتشف أن أحدهم قد تدخل في اللحظة الأخيرة لإبعادي عن الوظيفة..
– وماذا فعلت إذاً ؟
– أعمل الآن “بنّاء” في الأحياء الشعبية الجديدة .. تذكر أننا كنا نعمل في البناء أيام إجازات المدرسة ، لقد استفدت من خبرتي القديمة..
– أمعقول كل هذا الذي تقول؟ أنا لا أصدق كلمة مما تقول يا (ع)..
– الحمد لله إنها الحقيقة .. هيا معي إلى البيت لترى .. كنت تقول لي دائماً إن دعوات الذين أساعدهم سوف تدركني .. لقد أدركتني فعلا ، فأبعدتني عن الطريق الذي كنت أسير فيه ، و أعادتني إلى حيث يجب أن أكون .. أبعدتني عن مال السحت ، و أعادتني إلى اللقمة الحلال ..