منعم سليمان يكتب: بين أماني الطويل ورشا عوض: رفض الوصاية وسؤال الندية

 

بين أماني الطويل ورشا عوض: رفض الوصاية وسؤال الندية

 

منعم سليمان

 

 

أسوأُ نماذج الوصاية هي تلك التي يُملي فيها مَن نصَّب نفسه وصيًّا عليك المعاييرَ الوطنيةَ لوطنك!

 

لا أدري، أأنا قائلُ هذه العبارة أم إنها “مسروقة” من الذاكرة، لكنها قفزت إلى ذهني فور قراءتي لتعليق الباحثة والكاتبة الصحفية المصرية المعروفة، الدكتورة أماني الطويل، في ردّها ـ غمزًا ـ على الكاتبة والصحفية السودانية القديرة، الأستاذة رشا عوض، حين شكّكت في دوافع كتاباتها، معتبرةً إياها دوافع “مدفوعة” وغير وطنية!

 

ولا أكتب هنا دفاعًا عن الأستاذة رشا، التي يُعدّها أغلب السياسيين والكتّاب الديمقراطيين السودانيين ـ وأنا منهم ـ واحدةً من أنزه الصحفيين/ات، وأكثرهم/ن استقامةً أخلاقيةً ووطنيةً؛ فهي ليست بحاجة إلى دفاعي عنها، ولا تحتاج أحدًا أن ينوب عنها في ذلك. بل إني أتمنى لو كنت أملك قوةَ تعبيرها، وعمقَ طرحها، ومنطقيةَ حججها عامةً ودائمًا.

 

لكن ما دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع هو ما أراه من سلوك بعض القنوات التلفزيونية التي تُقدّم كتّابًا/ات وصحفيين/ات من مصر، بوصفهم “خبراء في الشأن السوداني”، فإذا بنا أمام فذلكةٍ لغوية، وطحنٍ بلا عجين، تعيد للأذهان تجربة (خبراء البرهان الاستراتيجيين) الذين ما فتئوا يسودون شاشات القنوات التلفزيونية، وقناة (الجزيرة) خاصة!

 

ولئلّا يُساء فهم حديثي، واحترامًا للمنطق أيضًا، أجد من الواجب أن أوضح أنني لا أقول إن الدكتورة المحترمة أماني الطويل ـ التي أعرفها على الصعيد الشخصي، وتربطني بها علاقةُ ودٍّ واحترام ـ تفتقر إلى المعرفة، أو أنها من زمرة “المفذلكين”، أو أُشبهها بالخبراء إياهم ـ معاذ الله ـ لكن ما أودُّ قوله، بكل صراحة وصدق، هو أنها وإن لم تفتقر إلى المعرفة بالشأن السوداني، فإنها تفتقر إلى الحياد الكافي الذي يجعلها مؤهلةً للخوض فيه.

 

فهي تُعبّر عن رأيها في الشأن السوداني من داخل السردية المصرية، وهي سردية، أقلّ ما يمكن أن توصف به، أنها رغائبية ومصلحية، تنتقي أنصاف الحقائق، ولا تستصحب الأبعادَ الكاملةَ للتحوّلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهي أيضًا سرديةٌ جامدة، لا تزال متوقفةً عند المحطة الخديوية، تلك التي لا تسمح بها التحوّلاتُ الكبرى التي شهدها السودان، ولا تملك مصرُ المعاصرة أدواتِ استعادتها.

 

إن مشكلة بعض المصريين/ات ـ سواء كانوا خبراء، أو كتّابًا، أو صحفيين ـ لو أحسنا الظنَّ بهم، فإننا نقول إنهم يفسّرون ما يجري في السودان من منظورٍ مصريٍّ خالص، بإسقاط الحالة المصرية على كل ما هو سوداني، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار الفروقاتِ العميقةَ في التجربة السياسية والاجتماعية، والمزاج، والتكوين الشخصي والسياسي السوداني.

 

فإذا استثنينا اللغةَ العربية ـ كتابةً ـ يكاد لا يوجد ما يجمع بين الحالتين، لا سيما في النظرة إلى الدولة. ففي السودان، ظلَّ المجتمع على الدوام أقوى من الدولة، بينما في مصر، ظلّت الدولة عبر تاريخها أقوى من المجتمع. وهذا فرقٌ جوهري لا يمكن تجاوزه.

 

ثم إن المزاج السوداني، بطبيعته، مزاجٌ متمرّد، تَوّاقٌ على الدوام إلى الحرية والديمقراطية، وقد عاشها ـ وإن كانت لفترات قصيرة ومتباعدة ـ لكنها، برغم قصرها، تظل تجربةً قائمة، لا تُقارن بالتجربة المصرية، التي تكاد تكون منعدمة في هذا الصدد.

 

وربما لهذا السبب لا ترى الدكتورة أماني، وغيرها، في تجرّؤ السودانيين عمومًا ـ ومنهم رشا ـ إلا ما تظنّه “عمالةً” و “عدميةً وطنية”. فالذي ذاق طعمَ الشيء، ليس كمن لم يذقه؛ والحرية، حين تُعاش ولو للحظة، تترك أثرًا لا يزول ولا يُمحى.

 

وفي كل الأحوال، فإن الدكتورة أماني الطويل، أو غيرها، ليسوا مؤهَّلين بما يكفي لمنح السودانيين دروساً في الوطنية، والديمقراطية، والحرية. وكأني بهم ممَّن عناهم الشاعر حين قال:

 

وأرفقْ بنفسك إن خلقك ناقصٌ

واسترْ أباك فإن أصلك مظلمُ.

 

وختامًا، فإن ما ينبغي أن يسود العلاقة بين السودانيين والمصريين ـ على اختلاف مشاربهم ومواقعهم ـ هو الاحترامُ المتبادل، والاعترافُ الكاملُ بخصوصية كلِّ شعبٍ وتجربته، بعيدًا عن عقلية الوصاية التي ما زالت تُخيِّم على بعض العقول، خصوصًا في الجانب المصري، ممّن يقرؤون الحاضرَ بالتاريخ، فيتوهّمون التفوّق، والأبوةَ، وامتلاك مفاتيح التفكير والقرار نيابةً عن الآخر!

 

لقد آن الأوان لأن تُبنى العلاقة بين الشعبين على أسسٍ من الندية، والتكافؤ، والتقدير؛ لا من موقع الاستعلاء، أو التبعية، أو تصدير النموذج الواحد. إذ لا أحد يحتكر التفكير والمعرفة، ولا أحد يملك حقَّ توزيع صكوكها على الآخرين. فالمستقبل ـ إن كُتب له أن يُصاغ بروحٍ تعاونيةٍ وشراكةٍ حقيقية ـ لا بد أن يبدأ من الاعتراف بالاختلاف واحترامه، لا من إنكاره، أو تسطيحه، أو إخضاعه لمقاييس لا تصلح إلا لصاحبها.

 

وإذا لم يكن بالإمكان تغيير التاريخ والجغرافيا، فلنَعمل سويًّا لمصلحة المستقبل.

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.