منعم سليمان يكتب: جمهورية الشاي!

جمهورية الشاي!

 

منعم سليمان

 

 

مصطلح “جمهورية الموز”، كما هو معلوم، نشأ في أميركا الوسطى، للدلالة على دول هشة وضعيفة وغير مستقرة، يحكمها طغاة فاسدون، ويُختزل اقتصادها في سلعة واحدة، بينما تنعم نخبة ضيقة بالثراء، ويُترك الشعب للفقر والمرض والجهل. أما في السودان، حيث يحكم الجنرال عبد الفتاح البرهان بتحالف غريب من العسكر وفلول النظام البائد ومرتزقة الحركات وبعض اللصوص، فقد انتقل بنا من “جمهورية الموز” إلى “جمهورية الشاي”، ومن اقتصاد المنتج الواحد إلى حكم الانهيار الشامل.

 

وفيما يرزح ملايين السودانيين تحت وطأة الموت والخوف والجوع والوباء، وتتوغل الكوليرا إلى المنازل، تطل علينا سلطة بورتسودان كنموذج صارخ للانفصال عن الواقع، تحكم من خلف أرصفة الميناء، منشغلة بقرارات عبثية لا تعالج ولا تسمن ولا تغني من جوع. سلطة هجينة وفاسدة بامتياز، لا يشغلها خراب الوطن بقدر ما تشغلها شحنات الشاي الكيني، وسرقات الذهب، والجولات العدائية المجانية ضد دول الجوار، وكأنها تعيش في مستعمرة بحرية منسية، بلا ذاكرة ولا خريطة.

 

من مقرها في بورتسودان، تتصرف هذه السلطة كما لو كانت تدير مكتب شحن، لا دولة تنهشها حرب شاملة. فقرار عبد الفتاح البرهان، أمس الأول، بالإفراج عن شحنات الشاي الكيني، بعد حظر عبثي فُرض استنادًا إلى اتهامات لنيروبي بدعم قوات الدعم السريع، يكشف مدى التخبط والارتجال في إدارة الدولة. وما حدث مع الشاي سبقه تكرار غبي مع الذهب، حين عطّلت السلطة غير الراشدة تصديره إلى الإمارات تحت شعار “السيادة والمعاقبة”، لتكتشف لاحقًا أنها فقدت سيادتها لجهات أخرى، وعاقبت نفسها لا الإمارات، إذ إن العائدات تُستخدم لاستيراد القمح، والوقود، والأدوية وغيرها من السلع. وحين أُغلقت الأبواب وتكبّد المصدرون الخسائر، لم تجد السلطة ما تفعله سوى التراجع الخجول والصمت المريب.

 

إنها سلطة بلا رؤية ولا شرعية، تتخبط بين الهستيريا والجبن، وتسيّرها الأهواء أكثر من المصلحة الوطنية. كل خطوة تتخذها تزيدها عزلة، وكل قرار تصدره تكشف نتائجه هشاشتها وفقدانها لأبسط مؤهلات الحكم. إنها لا تمثل الدولة، بل تجسّد مزيجًا من الفساد والعجز والتبعية العمياء، وتعيد إنتاج الفشل بأدوات أكثر وقاحة.

 

السودان لن يخرج من جحيمه ما دامت قبضة العسكر والكيزان تتحكم في مصيره، والحل لا يكمن في مهادنتها أو تجميل وجهها القبيح، بل في اجتثاثها من جذورها، بدءًا من رأسها: ذلك الجنرال الذي فرّ من ميادين القتال ليحكم من تحت حاويات الميناء، ويحتمي بشعارات كذوبة جوفاء، مانحًا الفلول والمرتزقة فرصة أخرى لتخريب ما تبقى من وطن يحتضر.

 

فليكن واضحًا: مواجهة كوز صريح أهون من مجابهة جنرال حربائي، متلوّن ومتكوزن. وإن جمهورية الذهب والشاي لن تكون أبدًا بديلاً عن دولة السودانيين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.