د.الوليد آدم مادبو يكتب..الغرب يُباد : الدم لن يتبخر هذه المرة

الغرب يُباد: الدم لن يتبخر هذه المرة

 

 

🖋دكتور الوليد آدم مادبو

 

في قلب الوطن، يُباد غربه. لا على الأطراف ولا في الصحارى القصيّة، بل في الشمال والوسط النيلي ذاته، حيث يفترض أن تستوي الكينونة السودانية في عمقها الجغرافي والتاريخي. غير أن التاريخ، كما يبدو، أعاد تدوير ظلمه، فصار أبناء الغرب يُحاصَرون في قلب البلاد، ويُصفّون بأدوات لا تختلف في عنفها عن البراميل المتفجرة، وإن اختلفت في الأسلوب.

 

ما يجري ليس صراعاً بين مليشيا وجيش. تلك الرواية التي يتعكّز عليها الإعلام — من لندن إلى إستنبول — ليست سوى قناع يُغطي وجه جريمة مركبة. هنا لا نتحدث عن معركة عسكرية، بل عن مشروع إبادة منظم، يُنفذ بحذر وتدرج، كي لا يوقظ ضمير العالم أو يدفعه إلى التدخّل. الضحية هي إنسان غرب السودان: جسده، صوته، وحتى هويته.

 

فمنذ أن انسحبت قوات الدعم السريع من مدن سنار والجزيرة والخرطوم، انفتح الباب أمام موجة تصفية بدأت فوراً، وكأن الأوامر كانت تنتظر فقط فراغ المكان. جماعات بملامح داعشية وأخرى تابعة لكتائب “البراء” ارتدت قناع “المقاومة” وهي تطارد الباعة الجائلين، ستات الشاي، عمّال الدرداقات، وكل من تشي سحنته بأنه ليس من المركز.

 

لكن لماذا الجيش صامت؟ ولماذا تكررت هذه الجرائم حيث يُفترض أن يكون الجيش هو من يملأ الفراغ؟

 

لأن الجيش، في تركيبته، يحمل مفارقة قاسية: فيه أبناء الغرب بنسبة طاغية، لكن قيادته مؤدلجة شمالية، ترى في التنوع الإثني تهديداً للاستقرار الذي تعتقد أنه لا يتحقق إلا بتجانس إثني مصنوع، حتى وإنْ اقتضى الأمر فصل الجغرافيا عن بعضها البعض. لا يجرؤ قادة الجيش على تصفية أبناء الغرب بأيديهم، لكنهم لا يمانعون أن يتم ذلك عبر وكلاء. إنها هندسة سياسية للدم.

 

في هذه الحرب، لا أحد يُعبّر عن مأساة الغرب مثل الجثث. الجثث التي لا تجد من يحصيها، ولا من يعبّر عنها سوى صور تتسرب من الهواتف، يتداولها من بقي على قيد الغضب. جثث تُرمى في الشوارع، تُشوى، تُهان، ويُعلق فوقها تعليقٌ ساخر: “شية كباب”. أي انحدار هذا؟ أن يتحوّل الجسد الأفريقي إلى نكتة في شريط جهادي، بينما الشاشات تدّعي الحياد.

 

الإعلام، للأسف، متواطئ بصمته أو انحيازه. الإعلام الغربي ينظر إلى الصراع من زاوية نمطية: مليشيا ضد جيش نظامي، متجاهلاً حقيقة أن ما يدور هو حرب أهلية ممتدة بين أطراف فقدت أخلاقها أو غُيّبت مصالحها. أما الإعلام العربي، فبعضه واقع في قبضة الكيزان (إخوان السودان)، أو خاضع لانحيازات جهوية صنعها أبناء الشمال الذين يتصدرون المنصات منذ الاستقلال.

 

الجرائم ليست حديثة العهد. ما حدث في الكنابي، ما حدث في الجزيرة، ما حدث في سنجة، ما حدث في أطراف أم درمان، كلّها طبعات من كتاب واحد. الكتاب الذي بدأت كتابته منذ سبعين عاماً، حين قررت النخبة الشمالية أن السودان لها، وأن الآخر — خصوصاً الغرب — يمكن توظيفه جندياً أو حطباً للحرب، لا شريكاً في الوطن.

 

لكن هذه المرة، الدم لن يتبخر. هذه المرة، قد يأتي الرد من حيث لا يتوقعون. إن انفجر الغضب المكتوم، فإن اندفاع الجموع لن يعرف تنظيماً، ولن يلتزم بتعليمات قيادة. سيتجاوز الدعم السريع ويذهب إلى الجذر، إلى من صنع هذه المعادلة الجهنمية التي لا ترى من الغرب إلا بندقية، ومن الشمال إلا عرشاً.

 

الشمالية ليست هدفاً عسكرياً. لا قيمة استراتيجية لها في حسابات الدعم السريع. كل ما في الأمر أن زخم التهديد تجاهها يُستخدم كأداة تعبئة معنوية. المعركة الحقيقية، إن كان المقصود هزيمة النخبة المركزية (الكيزانية خاصة)، تكمن في قلب السلطة العسكرية: في وادي سيدنا، وفي المهندسين، حيث تُصاغ الأوامر وتُرسم الخرائط، لا في الرمال التي تُغسل فيها أقدام الحالمين بانتقامٍ بلا أفق، كما حدث في الجزيرة وفي ود مدني. فما يبدأ بالتعدي، يقود إلى التهتك وينتهي بانهيار المعنى ذاته: معنى الدولة، معنى الإنسانية والأخوة الدينية، ومعنى العيش المشترك.

 

إن ما نشهده اليوم ليس مجرد حرب أهلية، بل انهيار لنموذج المركز، وانكشاف لوجهه العنيف حين يُحاصر الهامش في عمق الوطن. وما لم يتم الاعتراف بأن هذه حرب إبادة ضد أبناء الغرب، لا مجرد معركة سياسية أو صراع نفوذ، فإن السودان يتجه نحو جغرافيا بلا أخلاق، وتاريخ بلا ذاكرة، ووطن بلا روح.

 

‏19, 2025 April

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.