عمار نجم الدين الدين يكتب.. علي كرتي:لا بقاء لدارفور في السودان
علي كرتي :لا بقاء لدارفورفي السودان
——————————————————————-
بقلم عمار نجم الدين
بكل وضوح وجرأة، خرج علي كرتي – الأمين العام للحركة الإسلامية – من صمته في لقاء تنويري محدود بمدينة عطبرة، كاشفاً حجم الصراع المستعر داخل صفوف الإسلاميين في حكومة بورتسودان، ومسلطاً الضوء على انقسامات عميقة تُنذر بانفجار داخلي قد يعيد رسم خريطة القوى الإسلامية في السودان.
كرتي، الذي ارتبط اسمه بمفاصل حاسمة في تاريخ “الإنقاذ”، أعلنها صراحة: ما قاموا به لإزاحة البشير لم يكن خيانة، بل “عمل وطني صميم”. لكنها وطنية تُفهم ضمنياً بأنها استباق لانقلاب داخلي آخر، كان يقوده جناح نافع علي نافع وإبراهيم محمود وغندور ومكاوي، عبر الدفع ببكري حسن صالح كبديل. هذا التصريح وحده يكشف أن الحركة الإسلامية لم تكن تسعى لإصلاح الدولة، بل لإعادة تدوير سلطتها داخل دوائر مغلقة، تحت مظلة “التجديد”.
باعتراف كرتي، فإن الهدف الاستراتيجي لم يكن فقط الإطاحة بالبشير، بل التخلص من “المؤتمر الوطني وتركته المثقلة”، في محاولة لبناء مشروع جديد تحت لافتة “حركة المستقبل للإصلاح والتنمية”، التي أسسها الإسلاميون أنفسهم، وزودوها بالإمكانيات والكوادر. ولكنها لم تحقق النجاح المرجو، لأن الأزمة الحقيقية ليست في اللافتات، بل في المضمون والعقلية القديمة التي تدير المشهد.
المشهد الذي يرسمه كرتي لا يوحي بقوة، بل يكشف حالة انهيار داخلي: تيار نافع ورفاقه يعاني من ضعف مالي وانفصال تنظيمي، بينما تيار كرتي استولى على أصول الحزب السابق، وشكّل قيادة بالتعيين بعد أن ذهب المنتخبون مع التيار الآخر. الصراع لم يعد فكرياً أو تنظيمياً، بل صار صراع موارد ومواقع ونفوذ.
رغم محاولات كرتي نفي الطابع الجهوي عن حركته، إلا أن حديثه نفسه يعمّق الشكوك. فقيادات “حركة المستقبل” التي ذكرها جاءت من مناطق معروفة، وكأنها تمثيل لجغرافيا الإسلاميين أكثر من كونها مشروعاً وطنياً. أما دارفور، فتم اختزالها باعتبارها “منطقة مشتعلة”، وتُركت وكأنها عبء على البلاد، دون أي طرح حقيقي لعدالة شاملة أو رؤية للمصالحة التاريخية. بل الأخطر من ذلك، أن كرتي قال صراحة: “ربما يكون فيما حدث مع جنوب السودان مخرج بالحسنى لجميع السودانيين”، في تلميح واضح إلى أن دارفور لا مانع من أن تلقى مصير الجنوب، وكأن الحل عندهم هو الطرد لا الشراكة، والانفصال لا الوحدة، وهي رؤية تفضح جوهر المشروع الإخواني الذي يتستّر بالدين ويُنكر الوطن.
هذا التصريح لا يمكن فصله عن السياسات الحالية لحكومة بورتسودان، التي شرعت منذ اللحظة الأولى في تنفيذ أجندة إقصائية، بدأت بقانون “الوجوه الغريبة”، مروراً باستبعاد كل ما هو غير خاضع للمركز، وانتهاء بإغلاق المسارات أمام أي مشروع وطني شامل. إن هذه الحكومة التي ترفع راية الهوية، وتقصي من لا يشبهها، ليست حكومة وحدة، بل مشروع تفكيك ممنهج.
ومن هنا يمكن فهم التحركات الميدانية الأخيرة، حيث تقوم قوات الدعم السريع بإعادة التموضع من مناطق إلى أخرى، في ما يبدو أنه تكيّف مع واقع جديد، تُعيد فيه حكومة بورتسودان رسم حدود سيطرتها الجغرافية بناءً على منطق الصفاء الأيديولوجي والولاء السياسي، لا على وحدة السودان. فالحرب عندهم ليست فقط مع الدعم السريع، بل مع كل من يهدد نقاء مشروعهم الإقصائي.
من اللافت أيضاً أن كرتي فصل بين مكاتب الحركة الإسلامية بالخارج، وخاصة في تركيا، حيث تبرأ من محمد عطا، واعتمد على شخصيات مثيرة للجدل مثل عبد الحي يوسف وسناء حمد، وهو ما يؤكد أن الصراع لم يعد فقط على السلطة، بل على من يحتكر تمثيل المشروع الإسلامي في الداخل والخارج. أما أحمد هارون، فرغم اعترافه بكفاءته، إلا أن الجنائية تمثل “عائقاً كبيراً”، وكأن الدولة التي يريدونها يجب أن تكون منفصلة عن العالم الخارجي، تعيد إنتاج نفسها داخل حدود الإقصاء والعزلة.
أخطر ما في حديث كرتي كان دعمه الصريح للبرهان وتحذيره من تحول “القوات المشتركة” إلى دعم سريع جديد، مما يكشف أن الصراع داخل القوات المسلحة نفسها صار امتداداً لهذا الانقسام الإسلامي. لم يعد الجيش جسماً وطنياً موحداً، بل تحول إلى ساحة صراع بين ولاءات إسلامية متضاربة، كل منها يسعى للهيمنة على السلاح والشرعية.
ما قاله علي كرتي لم يكن اعترافاً بالهزيمة فحسب، بل إعلاناً ضمنياً بأن المشروع الإسلامي في السودان، بصيغته القديمة، قد وصل إلى نهايته. فالصراع الذي يدور داخل حكومة بورتسودان ليس حول مستقبل السودان، بل حول من يرث تركة الإنقاذ، ومن يحتكر الحديث باسم “الحركة الإسلامية”.
إنها معركة خاسرة بكل المقاييس، لا تنتج مشروعاً وطنياً، بل تكرّس دولة الطوائف والمليشيات والشلليات. والسؤال الأهم: هل ما زال لهذا التيار ما يقدّمه بعد كل هذا الخراب؟
الإجابة تجدها في صمت الشارع… وصوت البنادق.