منعم سليمان يكتب: دمية تتسكع في مسرح الخراب!
دمية تتسكع في مسرح الخراب!
منعم سليمان
أسبوع أو أكثر منذ أن استقدم عبد الفتاح البرهان دُميته السويسرية، ولم نسمع أو نرَ ما يدلّ على أن الرجل “الدمية” يفهم معنى السلطة، ناهيك بأن يكون لديه برنامج لها. لم نره إلا في الشوارع والأسواق، وكاميرا “سونا” خلفه، يصافح الناس، ويُربّت على أكتافهم، وهو يحرّك يديه ويهزّ رأسه في أداء تمثيلي بليد ومبتذل، وكأنه رسول رحمة هبط فجأة على أطلال الخراب؛ ذلك الخراب الذي لا يحتاج إلى تفقّد، بل إلى إجابة: لماذا وقع أصلًا؟!
في رقعة جغرافية ضيقة، تفوح منها رائحة الموت، وتغيب عنها أبسط مظاهر الحياة؛ تنهشها الحرب، وتفتك بها الأوبئة، وتخنقها المجاعة، ويتكئ فيها الخراب على عكاز الانهيار الشامل.. يخرج علينا السيد كميل إدريس، كل يوم وآخر، متجوّلًا ومتَصوّرًا في الشوارع والأسواق، يصافح هذا، ويُربّت على كتف ذاك، ويبتسم للعجائز، ويطبطب على رؤوس الأطفال، وكأننا في حضرة أميرٍ للمؤمنين، في زمن الراعي والرعية، يطوف ليلًا بين الأزقة، يتعقّب الجوع، ويقارع البؤس، ويتحمّل مسؤولية الطفل إن بكى، والشاة إن تعثّرت!
السيد كامل، الذي أحبّ أن أناديه “كميل” – كما يحب أن ينادي نفسه- هو، فعلاً، دمية أنيقة في يد سلطة صُورية؛ يطوف الأسواق والأزقة كخليفة راشد من زمن الفاروق. لكن ثمة فارقًا جوهريًا يفسد المشهد: عمر بن الخطاب كان يبيت جائعًا إذا جاعت رعيته، بينما رئيس وزراء “سلطة الواقع البديل” في ساحل البحر يوزّع الابتسامات وسط مشاهد البؤس، ويتصوّر مع الفقراء تَجمُّلًا، دون أن تهتزّ في عينه دمعة واحدة!
لا بأس، نحن نحب المسرح، لكننا نفضّل الكوميديا الترفيهية الذكية، لا الفارغة والمبتذلة إلى هذا الحد!
لكن يبدو أن سلطة البرهان وكيزانه، وقد ضاق بها الحصار كما السياسة والجغرافيا، قد وجدت في التجوال وسط الأسواق مهربًا من مواجهة الحقيقة، بل ومادة دعائية تُسوِّق بها بضاعةً ميتة في سوق الضمير. ولا أعرف: متى كان تفقُّد الأسواق عملًا سياسيًا في بلد لا وجود فيه لاقتصاد؟ ومتى أصبحت مصافحة الناس في الشوارع تعبيرًا عن حُكم راشد؟ بل أي سلطة تلك التي تملك الوقت للتسكّع في الشوارع والأسواق، بينما تقارير الأمم المتحدة تتحدث عن ملايين المهدَّدين بالموت بسبب المجاعة، وعشرات الآلاف الذين يعانون الكوليرا، وأكثر من هؤلاء وأولئك مهدَّدون بالموت جرّاء القصف العشوائي للمدن والقرى والبوادي؟!
قد يقول قائل: وماذا يفعل الرجل؟ أليس من الأفضل أن يخرج للناس بدلًا من أن يختبئ؟ والجواب بسيط :
من يُفترض أنه (رئيس وزراء) سلطة تنهار كما في بورتسودان، لا يوزّع الابتسامات، بل يدير الأزمات. لا يزور الأسواق، بل يفتح الممرات الإنسانية. لا يتلقّى تهاني العيد، بل يُعلن حالة الطوارئ، ويخاطب شعبه، ويصارحه بأن الحل في تحقيق السلام، لا في إشعال الحرب.
أما هذا التمثيل المكشوف، فهو لا يخدع حتى من أعماه الله، وكفاه نقمةَ مشاهدة الواقع الأليم الذي أوصل إليه البرهان البلاد.
إنه دمية جامدة ورديئة… جدًا.