• أخوكم ممن يؤمنون تماماً بأن “الجدل البيزنطي” حين يرتفع في ظروف “بيزنطية” كالتي يعيشها السودان ، يصبح جدلاً عميق المعنى ، و ربما نهض بين أعظم أعمال الحكمة البشرية ، و لهذا ، فقد كنتُ على الدوام من المعجبين بما نسبته الأسطورة الشعبية إلى إخواننا أبناء تلك القبيلة السودانية العريقة ، حتى تمنيت لو أنني كنتُ يومها أحد أبناء تلك القبيلة ، حتى أنال مجد الحكمة بعيدة المرمى التي أرسلها سادة تلك القبيلة إلى المجتمع المحيط ، يوم أن رأوا الناس حولهم يحمل كل منهم سيفه و رمحه و يتقاتلون على خشاش الأرض كما تتقاتل القطط على جيفة .. قالوا إن حكماء القبيلة المعنية نظروا إلى المتقاتلين الحمقى بسخرية يستحقونها ، ثم نظموا سباقاً للحمير .. فزمجر أولئك المتقاتلين الحمقى قائلين : (الناس في شنو .. و “….” في شنو).. و كأن الحكمة و النبل و الرجولة لا تتوفر إلا في من يتقاتلون على قمامة الأرض..
• المهم .. خلونا في جدلنا البيزنطي النبيل .. الأخ عبد الله مكي كتب ، ذات يوم ، بالزميلة الخرطوم، عن “الأسد” شخصياً ، الأسد سيد الإسم ، الغضنفر ، الهزبر .. فأورد في صفاته و مزاياه و امتيازاته ما حفل به الأدب العربي ، و كال له المدح ضعفين .. حتى هنا و الأمر عادي ، فكلنا تعلمنا منذ نعومة أظافرنا أن الأسد هو ملك الحيوانات و سيدها ، أشجعها و “أرجلها” و أنبلها ، و لكن الطامة الكبرى تمثلت بعد ذلك في تعقيب صديقنا قرشي عوض على مقالة عبدالله مكي ، على ذات الصحيفة ، فالرجل لم يكتف بالتشكيك في ثوابت ثقافتنا عن “الأسد” فقط ، بل توجه بإساءات و إهانات بالغة إلى الأسد ، و سخر منه سخرية لا يصبر على مثلها “قرد” ، خليك من أسد .. تصور يا مولانا ، قرشي أورد روايات معنعنة صحيحة السند ، إلى خبراء ، تزعم أن الأسد في غرب السودان – و الذي يسميه أهلنا البقارة “الكلب” – يفر هارباً أمام شخص يحمل فأساً !! هل تصدقون هذا ؟ ليس هذا فقط ، بل تؤكد ذات الروايات الموثوقة ، بزعم قرشي ، أن بعضهم شهد بعينيه قطيعاً من الأسود يفر هارباً أمام جماعة من الناس يطاردونه!! .. في الحقيقة ، وبرغم غضبي الشديد من تشنيع قرشي على قبيلة الأسود و إشانة سمعتها ، إلا إنني رضخت لمقتضيات الموضوعية ، و قلت : فلنبحث عن حقيقة هذه الروايات (خصوصاً و أننا لم نبحث من قبل عن حقيقة الروايات التي تؤكد شجاعة و بسالة و بطولة و نبل الأسد).. لماذا لا نتحقق من الأمر بشكل تجريبي مباشر ، فروايات العم “جيلاني” التي أوردها قرشي في “جبن”و “هوان” الأسود ، لا تقل عندنا وثاقة عن روايات رجال كالمتنبئ و أبي فراس و بشر ، صاحب قصيدة (أفاطم لو رأيت ببطن خبتٍ*** و قد لاقى الهزبر أخاك بشرا) في بطولة و شجاعة الأسد ، و الفيصل هو الاختبار العملي للروايتين ، و الخروج بإحدى نتيجتين : إما أن الأسد فعلاً “أسد” كما يصوره أدبنا و أساطيرنا ، أو أنه فعلاً جبان و رعديد و “إشاعة” كما يؤكد الكثيرون من ذوي الخبرة ..
• و لما كانت الخرطوم ، للأسف ، خالية من الأسود ، حتى أسود “الجنينة” فرزعوها و جهجهوها و حملوها ، في ما روى الرواة ، إلى معسكرات إغاثة “أين؟لا ندري” فهلك منها من هلك ، وبقي منها من بقي هزيلاً مكتئباً يخاف من مواء قطة .. فإن الشروط الموضوعية للإختبار العملي للروايتين السالفتين و المتناقضتين حول حقيقة “الأسد” تواجه مشكلة حقيقية ، و لا يبقى أمامنا إلا “التصويت” النوعي ، و التصويت النوعي أعني به تصويت أهل الخبرة و المعرفة العملية بأخلاق و طبائع الأسود ، و قد لجأت إلى بعض زملائنا القادمين من أنحاء تتوفر فيها الأسود ، مثل أبناء بعض النواحي الغابية في كردفان ، و في جبال النوبة ، فأكد لي أبناء تلك النواحي أنهم فعلاً يسمون الأسد “الكلب” ، هذا من ناحية ، و من ناحية أخرى انقسموا في مسألة شجاعة الأسد ، ولكن شواهدهم التي تؤكد جبن الأسد و انحطاط همّته كانت أقوى ، إذ اتفقوا جميعاً على أن الأسود لا تهاجم حظائر الأغنام و الماعز ، إلا ليلاً ، متسلِّلة كالثعالب و الذئاب ، و كنت أظن في ما مضى أن الأسد يأخذ فرائسه “حُمرة عين” و في عز النهار .. إذاً ، الأسد يخاف فعلاً من البني آدمين و لا يسرق أنعامهم إلا ليلاً ..
• طيب .. يعني المتنبي و الفرزدق و بشر ابن عوانة و عنترة ، و بخت الرضا ..كل هؤلاء هل اتفقوا على الكذب و قادوا حملة انتخابية مزورة لصالح الأسد؟؟ هذا لا يقبله العقل طبعاً .. التفسير الوحيد المتاح لنا في هذا التناقض هو أن الأسود التي تحمل هذا اللقب في السودان حالياً ليست أسوداً حقيقية .. يعني ، شوية كلاب عملوا ليها “ميك اب” و زوَّروا ليها أوراق ثبوتية ، و قالوا ليها : بقيتوا أسود ، أمشوا..
• طيب ، ليييييه؟؟
• تقول الرواية أن الأسود الحقيقية، أيام البشير ، كانت قد تمت إحالتها للصالح العام ، لأن الحكومة لا تستلطف من يقول لها “أنا أسد” ، فهاجرت الأسود إلى دول الجوار .. و بعد أن خلت البلاد من الأسود اكتشفت الحكومة أن “الغابة” أصبحت تعاني من “فراغ دستوري” و ضربت الفوضى أرجاءها ، و أصبح الصغير فيها لا يحترم الكبير ، و الفأر فيها يسخر من الحمير ، فقررت أن تضع حداً لهذا العبث ، فعيَّنت ملوكاً جُدد للغابة ، فاختارت الكلب خليفة للأسد ، و لكن الكلب الذي تعرفه جميع الحيوانات أبدى تحفظه و أكد أن الحيوانات لن تأتمر بأمره ، فقالت له الحكومة : دي بسيطة .. حنعمل ليك مكياج و نحولك لأسد .. و هذا ما جرى ..
• و قد اختاروا للكلب ، بعد ذلك ، اسماً جذّاباً ، سمُّوه “أسد أفريقيا”