كاتبة هذا المقال، عائشة عبد البنات، من قبيلة الداجو، لجأت أنا وأخي الأصغر آدم عبدالبنات، من ضواحي الجنينة (داراندوكة) إلى تشاد سنة 2005، بعد أن قُتل أبي وأمي، وثلاثة من اخواني وأختى الكبرى، فقد أحرق الجنجويد قريتنا. وبعد ستة أشهر من لجوئنا، تبنتنا عائلة ألمانية مسيحية من برلين، وجدتنا في معسكر (كونكركو) بتشاد، بعد أن علمت بأننا يتيمان. بارك الله في كل (كافر) في ألمانيا، فقد أنقذونا من الموت جوعا ومرضاً وجهلاً. كان عمري وقتها 15 سنة، وعمر أخي 6 سنوات، والمفاجأة أن هذه العائلة الكريمة لم تطلب منا تغيير ديننا ولو تلميحاً، بل ساعدتنا بتنمية معارفنا بالاسلام وقيمه السمحة، فألحقتنا بأحد المراكز الاسلامية في برلين، لنحفظ بعضاً من القرآن والأحاديث والفقه. هم يذهبون إلى كنيستهم، ونحن نذهب إلى مسجدنا. هذه الأسرة الكريمة، عائلتنا البديلة، علمتنا في أرقى المدارس والجامعات، وساعدناها بنجابتنا وذكائتا الفطري، حتى أن أخي آدم حقق للاسرة تكريماً مهيباً عندما تخرج من كلية الطب متفوقاً على أقرانه جميعهم، وهو الآن مدرس في الكلية. أما أنا؛ فقد درست القانون، وأصبحت محامية وباحثة في مجال حقوق الانسان في السودان، لأحدد هل للشعوب السودانية حقوق كبشر؟ نعم كبشر، وليسوا كسودانيين.. لقد استطعت تحديد وتشخيص أمراض القطر الأفريقي الذي يدعى السودان، وأنا الآن على مشارف الانتهاء من كتاب (السودان – طريق لاتجاه واحد) باللغات العربية والانجليزية والألمانية، وسيكون متاحاً للشعوب السودانية في يناير 2024م إن شاء الله، بعد تعديلات جوهرية عقب بداية حرب التحرير الجارية الآن. وأقر هنا بأنني حذفت بعض المطاليب، لأن حرب التحرير، وخطاب قادة وأشاوس(الدعم السريع) وعقيدتهم القتالية، قلبت موازين قناعاتي السابقة، وتمنيت الآن لو كنت جندية مقاتلة مع شبالي الدعم السريع، لو كانوا يرضون (لوليتهم) القتال في ميدان المعركة.
الحرب الدائرة الآن في السودان، بين مليشيا الجيش الإسلاموي، وكتائبه الداعشية الإرهابية، وبين قوات الدعم السريع، تبدو أنها حربٌ وجودية للتحرير النهائي لشعوب السودان من استعمار النخب الشمالية وحواضنهم التي سندتهم لسبعة وستين عاماً دأباً. ولا نقول النخب النيلية او الشريط النيلي، لأن كل الشعوب السودانية التي تمر بها(أنيال السودان الثلاثة) ـ الأبيض والأزرق ونهر النيل، هي شعوب نيلية.. شعوب الجنوب نيلية، شعوب النيل الأبيض والخرطوم نيلية، شعوب النيل الأزرق من الحدود الحبشية إلى سوبا، نيلية، مثلهم مثل الشمالية الكبرى. فإذا كنا نتحدث عن النيليين، فنحن نعني ثلثي سكان السودان قبل انفصال الجنوب، ونصفهم الآن، وأن السكان النيليين جميعهم، هم حواضن للنخب النيلية، أو الأشرطة النيلية، وهذا ليس صحيحاً قولاً واحدا.
أضف إلى ذلك أن الشعوب النيلية ما دامت بهذه الكثرة الكاثرة، والأغلبية الساحقة، فيحق لها أن تحكم البلاد ديمقراطيا، بلا حاجة للانقلابات العسكرية والحروب العبثية التي ظل يشنها جيش الإقليم الشمالي، بمباركة الأحزاب السياسية التي يهيمن عليها(الجلابة)، على شعوب الهامش في جنوب السودان ودارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وشرق السودان في الحدود المتاخمة لأريتيريا.
وأعلن هنا أن هذا المقال، هو دعوة صريحة لتحرير السودان من نخب(المديرية الشمالية)، لأنني أول المتضررين من هذه المؤسسة العنصرية القميئة(الجيش)، الذي قتل أهلي وشردني.
خلفية تاريخية
يعتقد كل أبناء أقاليم السودان المختلفة(الهامش)، أن أبناء الولاية الشمالية هم ورثة الاستعمار الانجليزي المصري، وأنهم هيمنوا على كل شيء بعد خروج المستعمر، وأن مصر تساند أبناء الشمال ضد بقية السودانيين، وأنها تعيش على موارد السودانيين، ولذلك فهي تقف ضد استقرار هذا البلد، وتتآمر مع (الجلابة) وهو مصطلح يقصد به أبناء الشمال، على سرقة والاستحواذ على موارد السودان. وحتى اقتحام قوات الدعم السريع لمطار مروي قبل اشتعال الحرب بأيام، كان بهدف تدمير مطار مروي خوفاً من تدخل الطيران المصري لصالح الجيش السوداني الرسمي، مع ان قوات الدعم السريع، هي أيضاً قوات رسمية انشئت بقانون في(16/يناير/2017).
ان ثورة الشباب في السودان التي اندلعت في ديسمبر 2018، سُرقت منذ يوم سقوط البشير في 11/ابريل/2019، ولم يكن انحياز الجيش نصرة لثورة الشباب، بل كان انحيازاً صورياً، باطنه انقلاب لصالح الحركة الاخوانية، انقلاب ناعم خُطط له بذكاء خبيث، انخدع له الثوار والسياسيون، وكان يهدف لعودة الاسلامويين الذين اجبروا على الانسحاب تكتيكيا، ليعودوا متى جاءتهم الفرصة على صهوة جواد أسود.
استطاع الاسلامويون تعطيل حكومة الدكتور حمدوك، الخبير الأممي، ثم اسقاطها بانقلاب عسكري في 25/ أكتوبر/2021، بواسطة عناصرها في الجيش السوداني، ومعهم قوات الدعم السريع، التي اعتذر قائدها محمد حمدان دقلو المعروف ب(حميدتي) عن مشاركته في الانقلاب، وقال أن البرهان خدعه بتصحيح مسار الثورة، ثم اكتشف أن الإنقلاب دبره الاسلامويون الذين يسميهم السودانيون ب(الكيزان والفلول).
أشعل الاسلامويون الحرب بين الجيش والدعم السريع صبيحة يوم(15/أبريل/2023)، عندما هاجم الجيش، مقرات الدعم السريع في الخرطوم، وكانوا يظنون أن الجيش وكتائب الاسلامويين سيحسمون المعركة في بضع ساعات، فإذا بها تتطاول لما يقرب من ثمانية أشهر، أبلت فيها قوات الدعم السريع بلاءاً حسناً، واستولت على أكثر من 90% من مقرات الجيش في الخرطوم، ولم تتبق لهم سوى ثلاث مناطق عسكرية محاصرة بالكامل: هي القيادة العامة، المهندسين، ومنطقة وادي سيدنا العسكرية.. كذلك سقطت القيادات والحاميات التابعة للجيش في دارفور وكردفان، مثل احجار الدومينو، وهم يخططون لاجتياح الإقليم الشمالي والاقليم الشرقي في غضون شهر من الآن، لتحرير السودان بالكامل من الاستعمار الوطني.
وهذا المقال ستتبعه مقالات أُخر نوضح فيها ماذا نريد من الدعم السريع، وما هو منهج وشرعة الحكم في السودان الجديد، الحر الديمقراطي، دولة القانون والعدالة والسلام. لكنني الآن أريد أن أناقش ثوار ديسمبر، والأحزاب السياسية التي تدعي الثورية، وسأطرح عليهم جملة من الأسئلة التي تحتاج لإجابات صريحة وشفافة.
1. هل أنتم كثوار وكأحزاب سياسية على درجة عالية من الغباء لتنطلي عليكم فرية أن الدعم السريع هو من فض إعتصام القيادة العامة في 3/يوليو/2019؟، ولم يفتح الله بصيرتكم لتفهموا كيد الكيزان الذين خدعوكم بانحياز الجيش للثورة، وعملوا جهد طاقتهم لإفشالها، والتربص بحكومتها؟
2. هل أنتم كثوار وأحزاب سياسية؛ مجلس مركزي وجذريون، لم تتنبهوا لمكائد وخبث(الكيزان)، لتسيروا في ركابهم، وتنفذوا مخططاتهم، وتضعوا أيديكم في أيديهم، وتتعاركوا فيما بينكم، ثم تسقطون حكومة ثورتكم بأيديكم وأيدي الكيزان؟
3. أي ثقة تولونها لمؤسسة ظلت تقتل شعبها مذ تركها المستعمر في فجر سنة 1956، أم أنكم كثوار وأحزاب سياسية تشكلون الحاضنة المجتمعية للمؤسسة العسكرية(الضباط والقيادات)، ولم تشعروا في يوم من الأيام، أن هذه المؤسسة المجرمة الفاسدة تاريخيا، كانت تقتل شعبكم، إن كنتم فعلاً لكم وجدان يشعر بمآسي بقية الشعوب السودانية؟
4. عاثت القوات المسلحة الفاسدة الخائنة لشعبها، خلال حكمها للبلاد(56) عاماً، عاثت فساداً وتقتيلاً وتشريدا واغتصاباً في الجنوب وجنوب كردفان ودارفور وجنوب النيل الأزرق وأجزاء من الشرق، وأنتم لا تشعرون، لأن شعوب هذه المناطق لا تنتمي إليكم، و(جلداً مو جلدك جر فيهو الشوك).
5. تهتفون في مواكبكم ومليونياتكم(العسكر للثكنااااات والجنجويد ينحل)، وأنتم تعلمون علم اليقين أن الجيش لن يبقى في ثكناته إلا لعام أو بعض عام، ثم ينقض على الحكم من جديد، لأنه تم تأهيله للحكم وليس القتال، وليس هناك سلطة بلا سلاح يحميها. إذاً؛ فالهدف النهائي لحراككم الثوري، هو حل الدعم السريع، وأنتم تعلمون أن الدعم السريع قوات رسمية، أنشئت بقانون، أجازه برلمان منتخب، ولا يستطيع أحد حله، إلا ببرلمان منتخب، وسبب هذا السعار والهياج، هو أن القرار العسكري لم يعد بيد جيشكم وحده، فهناك لاعب جديد شديد البأس دخل حلبة الصراح، ولا يمكن اتخاذ أي قرار لا يوافق عليه.
6. الآن؛ الكيزان يقاتلون الدعم السريع ببزة القوات المسلحة، وبسلاحها لاجل استرداد ملكهم العضوض الغابر، فإذا نجحوا في ذلك سيسومون بقية شعوب السودان سوء العذاب، ويقتلونهم تقتيلا كما ظلوا يفعلون منذ الاستقلال، بل قبله، ويفسدون في الأرض أكثر مما فسدوا وأفسدوا، فلماذا ثرتم ضدهم إذا كنتم الآن تقفون في صفهم، وتسكتون عن جرائمهم وفظاعاتهم، وتوجهون كل أبواقكم ضد الدعم السريع؟
7. ألم يعتذر حميدتي على رؤوس الأشهاد عن كل فظائع الدولة السودانية منذ الاستقلال وحتى الآن؟
8. ألم يعتذر عن إنقلاب 25 أكتوبر/2021م يوم توقيع وثيقة الاتفاق الاطاري؟
9. ألم يقف كالطود العظيم منافحاً عن الاتفاق الإطاري الذي ينهي سيطرة الفلول على الجيش والسلطة، وأعلن إيمانه بالدولة المدنية التي كنتم تنادون بها، وبالديمقراطية والحرية والسلام والعدالة، وهي ذات شعاراتكم التي رفعتموها في ميدان الاعتصام، وفي مليونياتكم ومواكبكم؟
10. من قتل الثوار منذ انقلاب 25 أكتوبر، أليسوا هم الجيش والشرطة وكتائب الاسلامويين وجهاز أمنهم الفاسد الفاجر؟
11. هل رأيتم جندي من قوات الدعم السريع قتل متظاهراً في المواكب والمليونيات؟
12. لقد أشعل الاسلامويون في الجيش، وكتائبهم، الحرب ضد الدعم السريع في 15 أبريل من هذا العام، وأنتم تعلمون ذلك يقينيا، فماذا فعلتم؟!!
لقد انحزتم بلا مواربة مع جيشكم الفاسد المغتصب القاتل، وصببتم جام غضبكم على(حميدتي الضكران الخوف الكيزان)، لأنه ليس منكم. ولو كنتم ثوريين حقاً، وتؤمنون بالتغيير الحقيقي، والثورة الحقيقية، لوضعتم أيديكم في يد حميدتي، ونسقتم مع الدعم السريع الذي رفع نفس شعاراتكم، ونادى بدولة المواطنة المتساوية، وأعلن ايمانه وحمايته للدولة المدنية الديمقراطية(والكضاب وصلو لخشم الباب)، ولكن اتضح أن ثورة ديسمبر رفعت شعارات كاذبة وزائفة، وظهر ذلك جلياً عندما تصدى للمفاوضات مع المجلس العسكري، نفس المكون الاجتماعي لقيادة الجيش(تبادل أدوار، حتى لا تخرج السلطة من أيدي أبناء الشمال).
13. وسؤال للجذريين(الشيوعي والبعثي والناصري)؛ ما هي حلولكم الجذرية، وأنتم بلا سلاح، وليس لكم قوة سوى(حلاقيمكم المشروخة؟)
لكل ما تقدم؛ أحرض الدعم السريع، وقوى الهامش المتحالفة معه، نقل الحرب إلى الشمالية والشرق، لتحريرهما من براثن الدولة العميقة، ثم عقد مؤتمر تاسيسي لكل السودانيين في جهاتهم الخمس، ليقرروا كيف يحكمون ويديرون بلدهم.