د.عبد المنعم همت يكتب.. فوضى الخارجية السودانية وموت المؤسسية
فوضى الخارجية السودانية وموت المؤسسية
د.عبد المنعم همت
الحل ليس في إقالة وزير وتعيين وزير
في اللحظة التي يكابد فيها السودان ويلات الحرب والانقسام، تزداد الملامح العامة للدولة ارتباكًا وتفككًا، ويغدو من الصعب التمييز بين القرار الرسمي والمزاج الفردي، بين السيادة التي تعبّر عن إرادة الأمة وبين التدخلات التي تصوغها مراكز القوى الخفية. واحدة من تجليات هذا الانهيار المؤسسي تتبدى بوضوح في ملف السياسة الخارجية، التي تحولت من أداة سيادية لترسيخ المكانة الوطنية إلى ساحة مفتوحة للتجريب، وتبادل الولاءات، وتصفية الحسابات السياسية.
لم تكن إقالة وزير الخارجية السوداني علي يوسف مجرد حدث إداري عابر. إنها في جوهرها مرآة لما آلت إليه بنية الحكم في السودان، حيث تغيب الشفافية، وتنعدم المؤسسية، وتُتخذ القرارات بعيدا عن أيّ إطار قانوني أو مرجعي دستوري. فقد جرى تعيين الرجل في نوفمبر الماضي دون أن تُمنح له صلاحيات حقيقية، وظل طوال فترة عمله يخوض معركة صامتة داخل وزارة باتت أسيرة مراكز النفوذ والتجاذبات العقائدية، ثم أُقيل فجأة، كما عُيّن، في غياب كامل لأيّ تفسير رسمي أو مساءلة علنية.
السودان لن يخرج من نفقه المظلم ما لم يُعِد بناء مؤسساته على أسس ديمقراطية، وما لم يتحرر قراره السياسي من قبضة الأيديولوجيات والتنظيمات
هذه الحادثة، على رمزيتها، تكشف عن عمق الأزمة البنيوية التي تضرب مفاصل الدولة السودانية. فليست المشكلة في الأشخاص الذين يتولون المناصب، بل في السياق المعطوب الذي يجعل من الوزير مجرد ظل، ومن المؤسسات واجهات شكلية، ومن الدولة كيانا هشا تتحكم فيه أطراف تتوارى خلف العباءة الإدارية، لكنها تدير المشهد وفقا لحسابات لا علاقة لها بمصالح الشعب أو مستقبل البلاد. والمؤسف أن الخارجية، التي ينبغي أن تكون صوت الدولة في العالم، تحوّلت إلى حلبة نزاع، يتحدث باسمها أكثر من طرف، ويُدار خطابها من غرف غير مرئية، في غياب أيّ سياسة واضحة أو مرجعية ثابتة.
السودان اليوم، وهو يمر بأخطر لحظات تاريخه الحديث، لا يمتلك سياسة خارجية يمكن الركون إليها. كلما ظن المراقب أن ثمة رؤية بدأت تتشكل، تبددت تلك الظنون أمام تصريحات متناقضة، ومواقف مرتجلة، وممارسات تعكس فوضى داخلية لا تخفى على أحد. فبدلًا من أن يكون الوزير هو المتحدث الوحيد باسم الدولة في المحافل الدولية، تنبعث من خلفه أصوات متعددة، كل واحد يمثل جهة ما، أو ولاء خفيا، أو مشروعا يتقاطع بالضرورة مع هوية السودان الموحدة.
ما يجعل الأمر أكثر فداحة هو أن هذه الحالة لا تقتصر على وزارة الخارجية وحدها، بل تمتد إلى أغلب مؤسسات الدولة، حيث يتم تعيين الوزراء والوكلاء ليس بناءً على الكفاءة أو الرؤية، وإنما على قاعدة الانتماء التنظيمي، والولاء السياسي، والقدرة على تنفيذ أجندة معينة. وقد نجحت الحركة الإسلامية، التي أُطيح بها من سدة الحكم بعد الثورة، في إعادة التمركز داخل الجهاز البيروقراطي للدولة، لا من بوابة الانتخابات أو الشرعية الجماهيرية، بل عبر الوكالات والوظائف الوسطى، التي أصبحت منصات لتوجيه القرار السياسي من دون المرور بالهياكل الرسمية.
السودان اليوم، وهو يمر بأخطر لحظات تاريخه الحديث، لا يمتلك سياسة خارجية يمكن الركون إليها
من المعروف بالضرورة، لم يعد الوزير يملك من أمره شيئا، ولا يستطيع أن يُحدث أيّ تغيير، بل يتحول إلى موظف مكلف بإدارة ملفات دون أن يكون له حق التقدير أو التوجيه. وتصبح الوزارة مجرد واجهة ظاهرية، بينما يتم اتخاذ القرارات الحقيقية في أماكن أخرى، تغيب عنها الشفافية وتغيب عنها كذلك الإرادة الوطنية الخالصة.
في خضم هذه الفوضى، تغيب كذلك مفاهيم السيادة والاستقلالية في القرار. فالسودان، الذي كان في يوم من الأيام قادرا على رسم مواقفه الخارجية باستقلالية وحنكة، أصبح اليوم تابعا لمحاور إقليمية، يُستدرج إليها دون أن يملك القدرة على التفاوض أو الممانعة. وليس من المبالغة القول إن كثيرا من الملفات الحساسة تُدار خارج حدود السودان، وبمعزل عن مؤسساته الرسمية، وهو ما يُضعف موقعه التفاوضي، ويُفقده الاحترام الدولي، ويعمّق من عزلته السياسية.
ولعل الحل لا يكمن في إقالة وزير أو تعيين آخر، فمثل هذه الإجراءات باتت شكلية، لا تمسّ جوهر المشكلة. إن ما يحتاجه السودان اليوم هو إعادة تأسيس كاملة لفكرة الدولة نفسها، بحيث تُستعاد المؤسسية، وتُفصل السلطات، ويُفعّل مبدأ المحاسبة، وتُبنى السياسة الخارجية على رؤية وطنية جامعة، تعبّر عن مصالح السودان لا عن أجندات من يتحكمون مؤقتا في مفاصله.
إن السودان لن يخرج من نفقه المظلم ما لم يُعِد بناء مؤسساته على أسس ديمقراطية، وما لم يتحرر قراره السياسي من قبضة الأيديولوجيات والتنظيمات، وما لم تعُد الدولة إلى موقعها الطبيعي، بوصفها كيانا يعبر عن إرادة الجميع، لا عن طموحات قلة تتحرك في الظل.
العرب