انقلاب السحر على الساحر … الإخوان يورطون الجيش السوداني بقضية خاسرة
انقلاب السحر على الساحر … الإخوان يورطون الجيش السوداني بقضية خاسرة
محمد سبتي صحفي أردني
استضاف قصر السلام في لاهاي بهولندا قبل أيام الجلسة الافتتاحية لمحكمة العدل الدولية للنظر في قضية رفعتها الحكومة السودانية الحالية، التي يقودها الجيش والمدعومة من الإخوان المسلمين، وتتخذ من مدينة بورتسودان على ساحل البحر الأحمر مقرًا لها، ضد دولة الإمارات العربية المتحدة.
وتتهم الدعوى الإمارات بالتواطؤ في الهجمات التي وقعت في منتصف حزيران (يونيو) 2023 على مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، وذلك بعد شهرين من اندلاع الصراع في السودان. وبحسب تقرير صادر عن منظمة (هيومن رايتس ووتش)، أسفرت تلك الهجمات عن مقتل آلاف الأشخاص وتشريد مئات الآلاف.
وقد دعت نائبة مساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية في دولة الإمارات ريم كتّيت، دعت المحكمة إلى رفض طلب السودان، وطالبت بشطب القضية بالكامل من جدول أعمال المحكمة. ووصفت الطلب بأنّه “إساءة صارخة لاستخدام مؤسسة دولية مرموقة”، مشيرة إلى أنّه يفتقر لأيّ أساس قانوني أو واقعي. ووصفت ادعاءات بورتسودان بأنّها “مضللة في أحسن الأحوال، ومحض تلفيق في أسوأها”.
ووفق مصادر خاصة لـ (حفريات)، فإنّ الجيش السوداني يراجع نفسه في القضية المرفوعة ضد الإمارات معتبرًا أنّها إخفاق كبير ناتج عن تدخل شخصيات إخوانية وتحريضهم على الإقدام على هذا الفعل دون التفكير بتبعات القضية، لأنّها سوف تفتح ملفات كثيرة لجرائم ارتكبها، وما زال يرتكبها، الجيش وميليشيات الإخوان المسلمين بحق السودانيين، وهو ما اعتُبر أنّه انقلاب السحر على الساحر.
ووفق تقرير لمركز spt، فقد كشفت القضية مفارقة لافتة أشار إليها العديد من السياسيين السودانيين عن واقع ساخر: إنّ الجهة السودانية الشاكية (المتمثلة في الحكومة الحالية والمؤسسة العسكرية) تنتمي إلى الجهاز السياسي والعسكري نفسه للنظام الإسلامي السابق، المتهم بارتكاب فظائع ضد المدنيين. هذه الجهة نفسها، المطلوبة أمام العدالة الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، تُقدّم نفسها اليوم ليس كمشتبه بها، بل كشاكية وممثلة للضحايا.
هذا، وأظهرت المرافعات القانونية هشاشة الدعوى المقدمة، فقد غابت الوثائق الرسمية، والتقارير المحايدة، والشهادات المؤسِّسة، في وقتٍ أكّد فيه خبراء قانونيون أنّ الدعوى تفتقر للأساس الصلب الذي يتطلبه القضاء الدولي، بل إنّ أحد المحللين القانونيين في لاهاي وصفها بأنّها “محاولة سياسية مقنّعة بغلاف قانوني، بلا عمق ولا مصداقية”.
وتحظى السلطة الحاكمة حاليًا في بورتسودان بدعم من عناصر سبق أن وُجّهت إليهم اتهامات بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات واسعة. وهي القوى نفسها التي اعتمدت في السابق على قوات الدعم السريع لتأمين سلطتها ومكّنتها من التوسع والتمدد.
وفي السياق، قال المتحدث الرسمي باسم هيئة الادعاء في محاكمة الرئيس المخلوع عمر البشير المحامي السوداني البارز معز حضرة في تصريح صحفي نقله موقع (الراكوبة): “إنّ القائمين على حكومة الأمر الواقع في بورتسودان، الذين نراهم اليوم في لاهاي يتهمون دولة الإمارات بالإبادة الجماعية، هم أنفسهم من يوفّرون الحماية لأولئك الذين ارتكبوا جرائم حرب وإبادة جماعية في دارفور، ويقومون حالياً بعرقلة العدالة الدولية من خلال رفضهم تسليم المطلوبين للمحاكمة في لاهاي”.
محامون وخبراء: “إنّ القضية المرفوعة ضد الإمارات، إضافة إلى الخطأ الإجرائي، ضعيفة وتفتقر إلى الأدلة المادية والمرتكزات القانونية اللازمة”.
في نهاية كانون الثاني (يناير) الماضي جدّد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، كريم خان، مطالبة السلطات في بورتسودان بتسليم الرئيس السابق عمر البشير، ووزير الدفاع السابق عبد الرحيم محمد حسين، ووزير الداخلية أحمد محمد هارون، الذين صدرت بحقهم مذكرات توقيف في أعوام 2007 و2009 و2010 و2012 بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور.
لكنّ السلطات السودانية دأبت في الردّ على طلبات المحكمة بالتسويف والمماطلة والازدراء المتكرر؛ إذ صرّح المعيّن نائبًا عامًا من قِبل السلطة القائمة في بورتسودان الفاتح طيفور، لوسائل الإعلام: “لدينا عدالة داخلية، ولا مبرر للجوء إلى عدالة خارجية بدلًا عن عدالتنا الوطنية”.
وفي السياق نفسه، قال السفير الحارث إدريس، المندوب السوداني بالأمم المتحدة، للصحفيين: “لا يمكننا الامتثال لطلبات مدعي المحكمة الجنائية الدولية، لأنّ المعلومات والأدلة المطلوبة دمرتها قوات الدعم السريع أثناء الحرب”.
ويُعدُّ رفض الحكومة السودانية التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية انتهاكًا لقرارات مجلس الأمن التي أحالت القضية إلى المحكمة، وأدت إلى صدور مذكرات التوقيف بحق المتهمين.
وبالعودة إلى القضية الإماراتية، أجمع عدد من المحامين السودانيين وخبراء أجانب في القانون على أنّه، وفقًا لتحليل المعطيات في الدعوى المقدمة من الحكومة السودانية، فإنّها إضافة إلى الخطأ الإجرائي، ضعيفة وتفتقر إلى الأدلة المادية والمرتكزات القانونية اللازمة.
وكتب مايكل بيكر، الخبير القانوني الدولي، وأستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان في كليّة ترينيتي دبلن، في مقال نشره بمدونة أوبينيو جوريس Opinio Juris، أوّل وأشهر مدونة عالمية مخصصة للنقاش المستنير حول القانون الدولي بين الأكاديميين والممارسين والخبراء القانونيين: “أتوقع أن تخلص محكمة العدل الدولية إلى أنّها تفتقر إلى الاختصاص للنظر في هذا النزاع”.
وتعجب العديد من المراقبين من توقيت الدعوى، التي تأتي في ظل الأوضاع الإنسانية المأساوية التي يعيشها السودان جراء الحرب المستمرة منذ نيسان (أبريل) 2023، حيث قدمت الإمارات مساعدات إنسانية كبيرة للمتضررين.
وأشار مراقبون إلى أنّ الدعوى بدت “محاولة سياسية” لصرف الأنظار عن التحديات الداخلية، خاصة مع تقارير أممية ودولية تُوثق انتهاكات جسيمة نسبت إلى أطراف النزاع، بما فيها الجيش السوداني، وفق (رؤية).
ووصفها وزير العدل السوداني السابق نصر الدين عبد الباري بأنّها نفاق سياسي من مؤسسة أيديها ملطخة بدماء الشعب السوداني.
الجيش السوداني “أعدم” علاقات البلاد مع محيطها بتهديدات علنية لتشاد، وتوترات مستمرة مع جنوب السودان، واستفزازات تجاه إثيوبيا وإريتريا وكينيا.
وقال أحد المحللين القانونيين في لاهاي: إنّ الدعوى “تفتقر إلى الأساس القانوني المتين الذي تتطلبه المحاكم الدولية”، ممّا أثار تساؤلات حول دوافعها الحقيقية.
في المقابل، عبّر نشطاء سودانيون عن استيائهم عبر منصات التواصل الاجتماعي، مشيرين إلى أنّ الجيش، الذي وثقت منظمات حقوقية مثل (هيومن رايتس ووتش) تورطه في انتهاكات ضد المدنيين في مناطق مثل دارفور والجزيرة، يحاول الظهور بمظهر “الضحية”.
واستذكروا تقارير أممية سابقة تتهم الجيش باستخدام أساليب قمعية خلال عقود، بما في ذلك قصف مدنيين وارتكاب جرائم موثقة في الحرب الأهلية.
وتبقى الدعوى التي رفعها الجيش السوداني ضد الإمارات محط جدل واسع، بين من يراها مناورة سياسية لتحسين الصورة الداخلية، ومن يعتبرها خطوة قانونية غير مدروسة، بينما يترقب المراقبون تطورات جلسات المحكمة.
وفي السياق، أكد نشطاء أنّه ليس غريبًا أن يكون الجيش السوداني في حالة خصام دائمة مع محيطه، فقد “أعدم” علاقات البلاد مع محيطها خلال محاولاته تصدير الأزمة بتهديدات علنية لتشاد، وتوترات مستمرة مع جنوب السودان، واستفزازات تجاه إثيوبيا وإريتريا وكينيا.
جيش ارتكب جرائم إبادة جماعية في دارفور، وقاد حروبًا دموية في الجنوب أدت إلى انفصال البلاد إلى دولتين، واستخدم أسلحة محرّمة دوليًا، بما فيها الكيماوي، وقصف المدنيين بشكل عشوائي في مناطق مأهولة، وتورط في حملات تطهير عرقي موثقة في الخرطوم وغيرها، فهل يحقّ لجيشٍ غارقٍ في تاريخ طويل من المجازر والانقلابات أن يتقمّص دور الضحية؟
حفريات