من سرق ذاكرتنا ..؟؟

علي يس

يتناسب واقع السودان المأزوم اليوم ، بهذه الحرب العبثية المدمرة ، يتناسب تماماً مع كوننا (أمّةٌ بلا ذاكرة)!!!..
ليس فقط لكوننا لم نتعلم شيئاً من تجارب “العبث السياسي” الناشب منذ الاستقلال، و لا أفدنا شيئاً من تجاربنا في الفشل السياسي المتناسل ، و لكن أيضاً بسبب التدمير المتعمد لذاكرتنا الثقافية المتمثلة في الكم المهول من إرشيفات الإذاعة السودانية المتراكمة منذ أبريل 1940 – تاريخ إنشاء الإذاعة السودانية كإحدى أقدم المحطات الإذاعية في أفريقيا- ثم إرشيفات (التلفزيون القومي) الذي أنشئ بدوره في العام 1962م متصدراً محطات البث التلفزيوني أفريقياً و عربياً ..
فخلال العقد الأول من هذا القرن ، و كنت إبّانذاك أعمل ضمن طاقم التلفزيون القومي لحوالي ثمان سنين، (و كان حينها يقترن بالإذاعة القومية تحت إدارة واحدة)عايشت واقعاً مريباً في ما يتعلق بمكتبتي الإذاعة و التلفزيون، إذ كانت إرشيفات كل منهما تتعرض للتلف الذي كنت أظنه حينها مجرد “تقصير إداري” من مسؤولي المكتبتين، فقد كنت تجد أشرطة التسجيلات الإذاعية التي يعود عمر أقدمها إلى أكثر من ستين عاماً متراكمة تحت الغبار و الفئران و الرطوبة التي أتلفت الكثير منها ، و كذلك أشرطة البرامج التلفزيونية التي يقارب عمر بعضها الأربعين عاماً ، تحت ذات الظروف المريبة.. خاطبت حينها مسؤولي الإدارة العامة للإذاعة و التلفزيون ، شفاهة حيناً ، و عبر المقالات الصحافية حيناً آخر، بإدراك تراثنا الثقافي و إنقاذ ما يمكن إنقاذه (و كانت وسائل استرجاع ذلك التراث متوافرة حينها، سواءً عبر نفض الغبار و تحسين ظروف التخزين، أو من خلال نقله إلى أنظمة حديثة عبر ماكينات نسخ كانت متوافرة في كثير من الدول و زهيدة التكلفة لدى إستيرادها)..
و لكن ذهبت دعواتي (و دعوات كثيرين غيري سواءً من العاملين بالإذاعة و التلفزيون أو من الصحافيين) أدراج الرياح ، ثم أدركت لاحقاً ، كما أدرك غيري، أن إهمال ذلك التراث الغني ، بل تدميره ، كان أمراً متعمداً ، مستنداً إلى فقه مشوّه ، يعتبر التراث الثقافي للشعوب السودانية “رجساً من عمل الشيطان” ..
إرشيف الإذاعة السودانية كان يضم كفلاً من ثقافات جميع الشعوب السودانية تقريباً ، بما فيها شعب جنوب السودان ، من تاريخ و تراث شعبي و غناء و شخصيات مؤثرة و أدب شعبي ، و كان إرشيف التلفزيون يتضمن أعمالاً يعد ضياعها كارثة ثقافية بكامل المعنى ، مثل البرامج التراثية التي كان يعدها و يقدمها أستاذنا الراحل الطيب محمد الطيب ، الذي جاب جميع أرجاء السودان من شماله إلى جنوبه و من شرقه إلى غربه ، و سجل فرائد من تراث شعوب السودان ، و آخرون أيضاً غيره تصدوا لتوثيق الكثير من نوادر ثقافتنا ، و كثير من البرامج الهادفة و الرائعة التي أيضاً وثقت تاريخاً قومياً سودانياً مضيئاً ، مثل (مسابقات المدارس) التي كانت تضم طلاباً من جميع أرجاء الوطن، و غيرها مما لا يحده الحصر.
ذلك التدمير المتعمد للذاكرة السودانية يعتبر جريمة بكل ما تعنيه كلمة “جريمة” ، و كان واضحاً أن أولئك “المجرمين” كانوا يطمحون إلى أن يحكموا شعباً بلا ذاكرة ..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.