سيكون أمرا مربكا حقاً ،افتراض أن للجيش السوداني تاريخا (واحدا ، متسقا ، متصاعدا) حتى بفرضية “المائة سنة” التي يتغنى بها القادة الحاليون لهذا الجيش. ذلك إنه حتى خلال هذه السنوات المائة الأخيرة لم يكن الجيش السوداني مؤسسة واحدة متنامية على على نسق واحد و عقيدة واحدة ، بل ولد هذا الجيش في ظل الاستعمار الأجنبي (الانجليزي المصري) و وظف وفق أهداف المستعمر الذي أسسه ، حتى إنه استخدم في مواجهة (الثورات) التي انفجرت ضد المستعمر ، كثورة اللواء الأبيض ، مثلا ، و ثورة الشهيد عبد الفضيل الماظ.
ليس في تقرير هذه الحقيقة مطعن في “شرف” هذا الجيش بالطبع ، فالجيوش منذ الأزل تنشأ لخدمة أهداف منشئيها ، هذا واجبها الذي تعرفه..
ما يعنينا إذن هو السؤال: هل ما زال الجيش السوداني يحتفظ بنفس أهداف نشأته و الواجبات التي أنشئ من أجلها ؟؟..
الجواب ، بالقطع: لا.
من جانب آخر يأتي السؤال:
– هل تمرد الجيش السوداني على الحكومة الاستعمارية التي أنشأته ؟ هل عمل – كجيش و ليس كأفراد – على تحقيق استقلال البلاد عن سلطة المستعمر بالقوة العسكرية ؟؟.
الجواب لا يختلف عليه اثنان.
إذن ، من المنطقي و الطبيعي أن نحذف فترة ما قبل الاستقلال من عمر جيشنا ، لأنه لا عقل يستسيغ أن يقلب جيش ما قيادته و أهدافه و واجباته و عقيدته القتالية ، أن يقلب كل ذلك مائة و ثمانين درجة ، ثم يبقى هو ذات الجيش!!!..
صحيح أن جيش السودان المستقل تأسس على العناصر و الخبرات الآيلة لجيش الفترة الاستعمارية ، و ليس في هذا ما يسوء ، و لكن لا يمكن عقلا قبول فكرة أن جيش السودان المستقل تأسس على يد المستعمر!!.. فما معنى الاستقلال إذن ؟..
على ذلك ، الأصدق و الأبعد عن الادعاء أن (نفترض) أن الجيش السوداني تأسس بعد الاستقلال “و هي فرضية ، بدورها ، لن تنجو من مطاعن عديدة ، إذا ما فحصنا الأدوار التي لعبها ، و التناقضات التي قارفها هذا الجيش منذ الاستقلال و حتى اللحظة الراهنة”..
تنص الأهداف الأساسية التي تنشأ من أجلها الجيوش ، و جيشنا واحد منها بالطبع ، على ما يمكن إيجازه في عبارة (حماية الوطن) ممثلا في شعوبه و أرضه و ثرواته، و “أمنه القومي” ، ضد أي عدوان خارجي، فضلا عن”حماية الدستور” (هذا هو الهدف الأساس الذي ظلت و ما زالت تنشأ الجيوش من أجله) و لم يتم النص أبدا ، في قانون أي جيش في العالم ، على أن من أهداف الجيش أن “يستولي على السلطة” برغم أن ذلك ظل يحدث في كثير من دول العالم الثالث بمبرر “حماية الدستور” مع أن النص على حماية الدستور لا يخول للجيش أن يحقق ذلك – إن انتهكت السلطة القائمة الدستور – بالاستيلاء على السلطة ، بل بإبدال السلطة التي تنتهك الدستور بغيرها ، وفقا لنظام الحكم في البلد المعني ، ملكيا كان أو ديمقراطيا ، رئاسيا كان أو برلمانيا. هذا في عموم دول العالم الثالث التي تشهد انقلابات عسكرية ، و لكن ، ماذا بشأن السودان ؟ و هل كان بند (حماية الدستور) مبررا – معلنا أو مضمرا – لأي من الانقلابات العديدة التي نفذها الجيش السوداني ضد ما وصفت بأنها “أنظمة ديمقراطية”؟؟.
أسلفنا أن التاريخ الافتراضي الأوفق لتأسيس الجيش السوداني هو تاريخ الاستقلال ، لأن جيش ما قبل الاستقلال جيش مختلف و ربما مناقض من حيث الأهداف و الواجبات و العقيدة القتالية. و لكن استقلال السودان لم يصحبه صياغة دستور تحتكم إليه الدولة السودانية المستقلة ، بل ظل الدستور الذي وضعه المستعمر البريطاني/المصري هو ما احتكمت إليه الدولة عقب استقلالها ، مؤجلة كتابة دستور وطني إلى أجل لم يسمح (الجيش) بحلوله ، إذ لم تتجاوز أول حكومة ديمقراطية السنة الثالثة من عمرها حتى شهد السودان أول انقلاب عسكري في تاريخ استقلاله.. و قطعا لم يكن مبرر الانقلاب “حماية الدستور” الذي لم يوجد أصلا!!.
الصورة الافتراضية للجيش ، أي جيش ، أن يكون “قوميا” من تكوينه الإثني ، “محايدا” من حيث انتمائه الأيديولوجي ، مبرءا من أي انتماء سياسي.. غير أن الجيش السوداني و خلال أول ثلاث سنوات من عمر الاستقلال أسفر عن انحياز سياسي صارخ لأحد الأحزاب التي كانت تتشارك حكومة ما بعد الاستقلال.. ثم لم يمهل ذات “الجيش” نفسه أكثر من خمس سنوات بعد سقوط حكومة الانقلاب الأول ، حتى عاد لينقض على السلطة بوجه ماركسي صارخ الاحمرار (حدث ذلك، لسخريات القدر، في وقت كانت السلطة الديمقراطية القائمة تحدث نفسها بكتابة الدستور، الذي عرقل كتابته الانقلاب العسكري الأول!!).. و هناك تقلب الجيش – أعني قيادته التي تعبر عنه في نهاية المطاف – في انتماءاته يمينا و يسارا حتى سقوط انقلابه الثاني ، ليدخل “غرفة المكياج” ثم يخرج منها بعد حجج أربع ، ملتحيا على هيئة خليفة عباسي!!!..
أواصل.