إبراهيم برسي يكتب: من السجود إلى السيادة: انحناءة الشكل على خراب الجوهر
من السجود إلى السيادة: انحناءة الشكل على خراب الجوهر
إبراهيم برسي
هبط الرجل.
لم تهبط معه الرؤية، ولا الدولة، ولا حتى ثقل الفكرة.
هبط كما تهبط السير الذاتية المفبركة في أدراج المنظمات الدولية:
في توقيت خاطئ، وبقلبٍ طامح إلى منصبٍ أكبر من الحقيقة.
ولم يكن الهبوط لحظة وصول، بل تذكير مرّ بأن بعض القادمين لا يحملون سوى ظلّهم
نحن أمام لحظة كوميدية، لكن بكاميرا عالية الجودة.
الملصق يقول: “وصول كامل إدريس”.
والمشهد يقول: “عودة الطموح القديم في عبوة بلاستيكية صالحة للتدوير”.
ها قد وصل الرجل.
وها نحن ننتظر الحلقة القادمة.
عنوانها سيكون غالبًا:
“الوجع كخطة خمسية: لجنة لإعادة تدوير الأسى”.
أو ربما: “أشواق الكرسي المعلّق بين جنيف وبورتسودان”.
وإذا ضاق بهم المقام، سيُعيدون بثّ الحلقة القديمة:
“وثيقة دستورية… إعادة مونتاج”.
كامل إدريس، أو بالأحرى “كميل”، الرجل الذي كتب كتابًا لا ليُنقذ السودان، بل ليُقنع الغرب أنه يفهم خريطته.
كتابٌ مليء بالوعود والمصطلحات المرتبكة، و قصص الخيال كمن يصوغ استبيانًا للسلام لكنه ينسى أن يحدد أين تقع دارفور.
لم يكتب سيرةً، بل دوّن خياله كما يُدوّن العاجزون نشيد نجاتهم من حياة لم يعيشوها.
كتابه “My Nile Odyssey” ليس تأريخًا لتجربة، بل رغبة في أن يكون شيئًا — أي شيء — يُثير إعجاب الغرب، ولو على حساب الحقيقة.
صبيٌّ يُطارد الجن، يواجه قراصنة النيل، ويتلقى تكليفًا رمزيًا من مانديلا.
إنه لا يكتب سيرته، بل يُفاوض الواقع بنسخة أكثر قبولًا منه.
نسخة صالحة للعرض، لا للحكم.
رجلٌ تلاعب بتاريخ ميلاده كمن يُعدّل ساعة يده ليلحق بطائرة الحلم.
مرّة من مواليد 1945، ومرّة 1954.
وكلّ مرة كان التغيير مطلوبًا كي يُناسب وظيفة أعلى،
أو منصبًا أمميًا، أو كرسيًا دبلوماسيًا على مقاس وهم.
لكن دعنا لا نظلم الرجل.
هو لم يقل إنه سينقذ السودان.
هو فقط كتب، وتحدث، وسافر، وابتسم، وانتظر.
انتظر أن يستدعيه أحدهم… وقد فعلوا.
ليست نكتة من شارع القُدامى، بل تحديث دوري لبرمجية الانحدار… مع خلفية موسيقية تتغني بالوطن.
لقد ظنّ البرهان، ومعه غرفة عمليات الكيزان،
أن كامل يمكن أن يكون “مكتملاً” بالقدر الذي يُقنع الخارج بأن الداخل يبتسم.
رجل بنظارات أكاديمية، وربطة عنق أممية،
وسيرة ذاتية مصقولة بورنيش اليونيسكو.
مناسب تمامًا ليكون دمية متحدثة بلغة “مدنية”،
لكنها تعمل بالبطارية العسكرية.
أليست هذه صورة بانورامية لوطن يصفق لنهايته من الزاوية الخطأ؟
شخص يسجد قبل أن يبدأ العمل.
حكومة لم تُعيَّن بعد، وبدأت بالانبطاح.
و”كامل” لا يقول شيئًا،
لكنه ممتلئ بالنوايا،
ويمشي فوق رأس الوطن بلا أن يشعر بوخزة سجادة.
يا صديقي، لا نحتاج إلى تحليل.
نحتاج إلى سُباب يليق بهذا الأداء.
لكن حتى الشتائم أصبحت عاجزة عن مجاراة هذا العبث.
فالذين يُخرجون هذه المسرحيات
يعرفون جيدًا أن الكاميرا أقوى من الضمير،
وأن السجود في حضرة الفشل
صار يُسوَّق على أنه وطنية مصقولة بالإخراج السياسي.
المطار لا يزال يُفرغ علب الطموح الفارغة، وينتظر صفقة أخرى.
والشعب — كعادته — إما يصفق، أو يُساق، أو ينسى.
الفرق هذه المرة أن الوهم تنكّر في هيئة بروتوكول، وابتسم بلغة الأمم.
لكن اليد ذاتها التي أطفأت أنفاس الشهداء في ساحة الاعتصام، هي التي تعزف اليوم نشيد “المدنية” المغشوش.
نحن ننتج الخضوع، ونسوّقه كحب، وندعوه بالبكاء…
وعندما نحزن، نطلب من الكاميرا أن توثق الهزيمة
بموسيقى تصويرية أقرب إلى شارة مسلسل سيئ الإنتاج.
وفي نهاية الحلقة، نكتشف أننا لم ننتقل.
لم نسقط.
لم نقم.
بل فقط بدّلنا دمية المسرح،
وأعدنا طلاء الواجهة بلون الحياد الباهت،
كأن شيئًا لم يكن.