دكتور الوليد مادبو يكتب .. فخامة الجهل وبلاغة التواطؤ: كامل إدريس نموذجًا!
فخامة الجهل وبلاغة التواطؤ: كامل إدريس نموذجًا!
✒️دكتور الوليد آدم مادبو
“حين تُقصى الحقيقة، تصبح السياسة عرضًا هزليًا، والسلطة مهزلة دامية.”
— حنة أرندت
في خطابٍ بدا كأنه عُجن في معاجم البلاغة ثم خُبز على نار الخداع السياسي، أطلّ الدكتور كامل إدريس، في أول ظهور له كرئيس وزراء، لا ليعلن برنامجًا، بل ليكرّس وهمًا. لم يكن خطابه بيان حكومة، بل وثيقة نوايا شخصية، أُريد لها أن تُغلف بعبارات رنانة تُخفي خواء المعنى، وتطمس التناقض البنيوي الذي يجلس عليه الرجل: أن يكون لسانًا مدنيًا لجسد عسكري، وأن يتكلم باسم وطن لم يكلّفه أحد باسمه.
لم تكن النبرة الواثقة في كلماته سوى تغطية على اهتزاز المشهد الذي جاء منه، مشهد تعيين فوقي، بلا مشاورة ولا مشروعية، في لحظة تاريخية فارقة تفتقر فيها الدولة إلى أي سند اجتماعي أو سياسي. فهو ليس نتاج إرادة شعبية، ولا ثمرة لتوافق وطني، بل اختيار صُمّم في غرفة مغلقة، تحت عيون جنرال تتآكل شرعيته، ويبحث عن مَن يُجمّل القبح، لا مَن يُصلحه. لا يحتاج السودان إلى إدارة ترميمية، يحتاج إلى ثورة تأسيسية تُعنى بتفكيك بنية الدولة المركزية التي نشأت على التهميش الاقتصادي، والظلم الاجتماعي، والاحتيال السياسي.
في خطابٍ يفترض أن يُخاطب شعبًا منهكًا من الحرب والجوع والتشريد، قرر كامل إدريس أن يصطف مبكرًا مع منطق البندقية، فسماها “معركة الكرامة الوجودية”. كرامة من؟ ووجود من؟ لن ننتظر إجابة لكننا نزعم أنها كرامة لا تتسع لدموع الأطفال في الجنينة، ولا تتوقف عند صرخات الأمهات في ود مدني، ولا تُعير انتباهًا لأطلال الخرطوم. إنها كرامة مُعلّبة، تُباع في سوق الخطابات الجاهزة، وتُشحن بلا رسوم إلى قاعات البروتوكول.
تحدث هذا “العوقة” الذي “تجاوز السياق الكارثي للحظة التاريخية” عن “معركة الكرامة الوجودية”، وكأن دماء المدنيين مجرد خلفية صوتية في رواية “ليون الأفريقي” للكاتب اللبناني أمين معلوف. تجاهل عمدًا – أو تواطأ بالصمت – مأساة الحمّادي والخوي وأم صميمة والأبيض والفاشر، حيث يموت الناس لا من فقر أو جوع فحسب، بل من التجاهل الرسمي الذي صار عقيدةً تورث لا خيانة فقط تضمر من قبل النخب المركزية.
إن من يطلق على هذه الحرب وصفًا وجوديًا دون أن يُحمّل المسؤولية لقادة البنادق (أو يقر أقلها بأن المليشيات ما هي إلا عرض لمرض أصيل متمثل في بنية الجيش السوداني)، إنما يُسهم في تطبيع الجريمة، ويعيد إنتاج سردية القوة في لباس الدولة. لا فرق هنا بينه وبين من يصدر الأوامر من خنادق القيادة العامة أو سراديب “المليشيا المتمردة”، سوى أن هذا الأخير يرتدي بذلة من قماش مدني مطرز بشعارات خالية من المعنى.
اقتصاديًا، بدا الخطاب أقرب إلى محاضرة تنموية في قاعة مغلقة، لا إلى مشروع إنقاذ وطني. فلا خطة، لا أرقام، لا اعتراف حتى بعمق الانهيار. الحديث عن الزراعة والصناعة بلا أدوات تمويل، بلا إصلاح مؤسسي، بلا أمن، بلا اعتراف بجذور الأزمة المتمثلة في مركزية السلطة السياسية والاقتصادية، الاستعلاء الثقافي والعرقي، قمع التنوع وازدراء الثراء الحضاري والإنساني، هو مجرد دعوة تُشبه لافتة فارغة في شارع مهجور.
أما سياسياً، فقد أعاد إدريس ترديد الأسطوانة المشروخة عن “الحوار الوطني”، دون أن يعرّف من هم أطرافه، أو كيف ينعقد، أو تحت أي ضمانات. تجاهل القوى المدنية، ولجان المقاومة، وقوى الريف السوداني، وكل أصحاب المصلحة في التغيير الحقيقي، وكأنه يخاطب شعباً لم يُثر يوماً، ولم يقدم شهداءً، ولم يكتب على الجدران “لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية”. ذلك التجاهل لم يكن سهوًا، بل تكتيكًا من مدرسة “التحايل الناعم”، حيث تُستبدل السلطة العسكرية بظلٍ مدني، دون أن يتغيّر العمق السلطوي القمعي.
تحدّث الرجل عن الزراعة، كأنه يقرأ من تقرير تنمية ريفية في السويد، وتحدث عن الصناعة، كأنه في ندوة بجنيف، لا في بلد تتقاسم فيه الميليشيات موانئ البر والبحر، ويُباع فيه السكر بالدولار والوهم بالحبال. أطلق وعودًا هلامية، بلا أدوات تنفيذ، بلا تقدير لحجم الانهيار، بلا أدنى اعتراف بأن ما أمامنا ليس اقتصادًا مأزومًا، بل كيانًا منهارًا لم يعد يملك ميزانيةً، ولا نظامًا مصرفيًا، ولا أفقًا منطقيًا يؤهله للخروج من “المأزق الوجودي”!
ختامًا، لم يخرج كامل إدريس من ركام نظامٍ مهزوم، بل أُخرج من درج انتظاري ظل مفتوحًا منذ 2008. وما تعيينه اليوم إلا مكافأة متأخرة على طول الانتظار، وتغافل متعمد عن حقيقة أن الرجل لم يكن جزءًا من أي معادلة نضالية، ولم يُعرف عنه موقفٌ مبدئي تجاه العسكر أو الإسلاميين أو جرائم الحرب. إن خطابه – بكل ما فيه من رصانة شكلية – لا يعبّر عن وعي سياسي، بل عن غيبوبة أخلاقية. وقد تكون الكارثة الكبرى أن الرجل يصدق ما يقول، ويظن أنه جاء ليقود، لا ليُقاد.
إننا نعيش زمنًا لم يعُد فيه للزيف مكان يختبئ فيه. والخطر كل الخطر، أن يُصدّق كامل إدريس أنه رئيس وزراء، فيما الحقيقة أنه مجرد ديكور في مسرح تتداعى أعمدته، ولن ينجو من السقوط مهما كانت عباراته مُنمّقة.
June 2, 2025