على أحمد يكتب: “خرطوم الأبارتهايد”… الجرافات تبدأ الفصل العرقي من شرق النيل
“خرطوم الأبارتهايد”… الجرافات تبدأ الفصل العرقي من شرق النيل
🖊️ علي أحمد
لما يقارب السنتين، خضعت ولاية الخرطوم لسيطرة قوات الدعم السريع، وكانت منطقة شرق النيل من أبرز معاقلها. تكيّف السكان مع هذا الواقع، كما يفعل المدنيون في مناطق النزاع، حيث تتلاشى القدرة على المقاومة، ويتبدّل الولاء وفقًا لمن يفرض سلطته، سواء كان جيشًا، دعمًا سريعًا، ميليشيات إسلامية، أو مرتزقة دارفوريين.
لكن ما أعقب انسحاب الدعم السريع كان مفاجئًا وصادمًا، وجرى بإشراف مباشر من الجيش ووالي الخرطوم المعيّن من قِبله.
البدايات… كيف أُشعل فتيل العنصرية؟
عقب انسحاب الدعم السريع من ولايتي الخرطوم والجزيرة، بدأت حملة منظمة استهدفت سكان الكنابي – أغلبهم ترجع أصولهم إلى دارفور، كردفان، وجبال النوبة – بتهم التعاون مع الدعم السريع. هذا رغم أن غالبيتهم يدعمون الجيش و”القوات المشتركة” بقيادة مني أركو مناوي وجبريل إبراهيم، التي تقاتل حاليًا إلى جانب الجيش.
لكن تلك المواقف لم تشفع لهم؛ إذ اقتحمت ميليشيات يقودها أبو عاقلة كيكل – المنشق عن الدعم السريع والمنتمي لقبيلة الشكرية- قرى الكنابي في ولاية الجزيرة، بمشاركة وحدات من الجيش. وارتُكبت خلالها انتهاكات مروعة من قتل واعتقال وتعذيب، بتحريض من منظمة عنصرية تُعرف بـ”النهر والبحر”، وبتواطؤ واضح من الكيزان وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان.
الذروة: من التنميط إلى التطهير العرقي
في الأيام الأخيرة، تصاعد خطاب يدعو إلى “تطهير” العاصمة الخرطوم من “المتعاونين مع الدعم السريع”، وهو توصيف عنصري يُوجَّه جماعيًا إلى أبناء غرب السودان، بصرف النظر عن انتماءاتهم العرقية أو مواقفهم السياسية، في مقابل احتفاء بأبناء الشمال والوسط، حتى لو ثبت تعاونهم مع الميليشيات، كما حدث مع كيكل الذي رُوّج له كبطل قومي عقب تحالفه مع الجيش.
وقد أظهرت مقاطع مصوّرة أمس الأول قيام قوات مسلحة كبيرة تقود الجرافات بتدمير قرية (الخيرات) بشرق النيل، التي يقطنها مواطنون من دارفور والنوبة، رغم امتلاكهم مستندات قانونية تؤكد حقهم في السكن. ويبدو أن عودة الجيش إلى الخرطوم شكّلت بداية لحملة تطهير عرقي ممنهجة تستهدف أبناء غرب السودان، في ظل انشغال الإعلام والمنظمات الحقوقية بالحرب.
تهجير قسري بقيادة الوالي
الأدهى من كل ذلك، أن والي الخرطوم الكوز، المعيّن من قِبل الجيش، أحمد عثمان حمزة، كان يقود الحملة العنصرية بنفسه، ما يؤكد أن الأمر تقف خلفه توجيهات سياسية منظمة.
وتأسست قرية الخيرات قبل نحو ربع قرن، في عهد النظام الإسلامي السابق، بموجب نظام الحيازة السكنية. وغالبية سكانها من قبيلتي المعاليا والنوبة، وكثير من شبابها يخدمون في صفوف الجيش، بل سقط بعضهم قتلى وهم يقاتلون معه. لكن ذلك لم يشفع لهم أمام الحملة العنصرية.
وفي المقابل، فإن أبناء البطاحين والمغاربة والكواهلة، رغم تعاون بعضهم مع الدعم السريع، لم يُمسّوا بسوء. بل تحالفوا مع الجيش وميليشيا “البراء بن مالك” لبدء عملية تهجير الأعراق غير المرغوب فيها من شرق النيل، في خطوة أولى لتشكيل (عاصمة بيضاء) متوهمة، لا مكان فيها لغرب السودان.
إلى أين يتجه السودان؟
هدم قرية الخيرات لم يكن مجرد إزالة عشوائية، بل إعلان واضح ببدء عملية تطهير عرقي تستهدف كل من لا ينتمي إلى الشمال النيلي. ونحن اليوم أمام نُذر حرب أهلية عرقية، تؤججها خطابات الكراهية، وتحميها مؤسسات الدولة، وتنفذها ميليشيات تتدثّر بعباءة الوطنية.
إنها لحظة مفصلية في تاريخ السودان، لحظة تستدعي وقفة وطنية صادقة قبل أن يتحوّل الخراب إلى قدر، والتمييز إلى نظام دائم، وتتحول العاصمة الخرطوم، في ظل سيطرة نظام الأبارتهايد الجديد، إلى بريتوريا أخرى.
الراكوبة