عبدالمنعم همت يكتب: السودان بلا مشروع وكامل إدريس بلا دولة
السودان بلا مشروع وكامل إدريس بلا دولة
عبدالمنعم همت
لم يكن تعيين الدكتور كامل إدريس رئيسًا لوزراء السودان حدثًا عابرًا في سيرة السلطة الانتقالية المنكسرة والمترنحة، بقدر ما كان انعكاسًا حادًا لطبيعة التناقضات البنيوية التي تعصف بما تبقى من الدولة السودانية. رجل القانون والفكر، القادم من فضاءات المنظمات الدولية والمجامع العلمية، وجد نفسه فجأة على رأس حكومة لا تملك من أدوات الفعل إلا قشرة رقيقة من شرعية شكلية مهترئة، تتكئ على تحالف هش ومؤقت أقرب إلى كومة رمال مبللة في سواحل بورتسودان، منها إلى بنية حكم حقيقية.
إن الدكتور كامل إدريس، رغم مؤهلاته العلمية الرفيعة وتجربته الدولية الواسعة، وُضِعَ في موقع لا يُحسَد عليه؛ إذ لا تُناطُ به سلطة تقريرية حقيقية، ولا يملك أدوات الحكم ولا حتى صلاحيات الإقناع. لقد جُرِّد من القدرة على رسم ملامح المشروع الوطني، واختُزِل دوره في تقديم صورة “مدنية” تكميلية لتحالف عسكري – إسلامي يتحصن وراء اللاشرعية ويفتقر إلى أدنى شروط الإجماع الوطني.
وإلى الآن لم تُطرح أي رؤية للدولة من قِبَل كامل إدريس، لا لأن الرجل يفتقر إلى الكفاءة أو البصيرة، بل لأن السياق السياسي الذي أتى به يرفض بطبيعته التفكير في الدولة بوصفها مشروعًا جمعيًا، ويصر على اختزالها في وظيفة أمنية محضة أو مسرح لاقتسام الغنائم. فشرعيته، في جوهرها، لا تنبع من الإرادة الشعبية أو من عملية انتقالية مؤسسية، بل من توافق اضطراري بين جنرالات تحالف بورتسودان، الذين لا يجمعهم إلا الخوف المشترك من الانهيار الكامل، وتكتيك المناورة باسم “التكنوقراط”.
إنَّ كامل إدريس محاصر من كل الجهات: فهو يواجه تعددًا خطيرًا في مراكز القرار، وتضاربًا صارخًا بين الجيوش التي تنتمي اسميًا إلى الدولة، ولكنها في الواقع تعكس مصالح ميليشياوية، إثنية، وحزبية متصارعة. كما أنه مكبل باتفاقية جوبا التي حوَّلت التفاوض من أجل السلام إلى بورصة للمناصب والامتيازات، وتورطت في إعادة إنتاج الهشاشة بدلاً من معالجتها. ولا تقل خطورة عن ذلك العزلة الدولية التي فرضها الإسلاميون على السودان، والعداء المتراكم نتيجة لسياسات عقائدية قصيرة النظر، جعلت من السودان حقلًا للمغامرات الجهادية العابرة للحدود.
إن التحدي الأكبر لا يكمن فقط في تعدد الجيوش أو تغوُّل العسكر، بل في فساد منهجي تحول إلى بنية موازية للدولة، تُدار بوسائلها، وتُحمى بقوانينها، ويُعاد إنتاجها داخل الجهاز البيروقراطي نفسه. هذا الفساد ليس مجرد انحراف عرضي، بل هو عصب السلطة الحالية، والمادة اللاصقة التي تُبقي التحالفات غير الطبيعية على قيد الحياة.
ويواجه إدريس أيضًا تمددًا خطيرًا لكتائب الإسلاميين، الذين لم يغفروا له يومًا انتماءه إلى فضاءات العقل الأممي، ويعتبرونه غريبًا عن “الثورة” التي يتوهمون أنهم أوقدوا نارها. هذه الكتائب تتخفى داخل أجهزة الدولة، وتعمل على تصدير العنف كما كانت تفعل في أيامها الخوالي: تحلم بتكرار اغتيال حسني مبارك، وتتغنّى بإرث تفجير المدمرة كول، وتعيد إنتاج تحالفاتها القديمة مع منظمات وجماعات وأجهزة أمنية في دول لا ترى في السودان سوى مسرح للدم والتخريب.
ولعل المفارقة القاسية أن كامل إدريس، رغم كل ما يحمله من سمو أخلاقي ومهني، وجد نفسه في النهاية مجرد واجهة يتم تسويقها خارجيًا لإضفاء مسحة مدنية على حكم يفتقد إلى العمق والوضوح والمشروع. هو اليوم -وبلا مواربة- في موقع من يقبض على جمرة تتناقص تحتها كل معاني السيادة والاستقلال، وهو مجبر على أن يرضي الجميع كي لا يخسر الجميع. وهذا بالضبط ما يُفسر تعيينه: رغبة في “اللعب على كل الحبال”، وتوزيع الابتسامات بين جنرالات الشرق ومجالس الجماعات، دون أن يتمكن من الإمساك بخيط الدولة الحقيقي.
قد تكون شخصية إدريس أقرب إلى العنقاء التي تنهض من رمادها، ولكن المشكلة أن العنقاء هذه المرة لا تنهض، بل تذوي في متاهة أبدية، حيث كل الدروب مسدودة، وكل الشرايين تنبض بالريبة، وكل الكيانات ترفض الحل، طالما أن بقاءها رهين بالفوضى والتجاذب.
نحن أمام مرحلة لا يحكمها منطق الدولة ولا سرديات الإصلاح، بل طغيان “التكتيك” على “الإستراتيجية”، واستبدال الخلاص الوطني بالإدارة المؤقتة للأزمات. وفي خضم هذا، لا يُنتظر من كامل إدريس أن يكون قائدًا لتحول حقيقي، بل مجرد مُسَكِّن للقلق الخارجي، وشاهد على مرحلة لم يخترها، ولن يقدر على تغيير مسارها، مهما بلغت درجة استقامته الشخصية.
وهكذا، تظل المعضلة قائمة: ليس في شخص إدريس، بل في السياق الذي أتت به، والسلطة التي لا تملك من الدولة إلا اسمها، وتحكم عبر وكلاء وممثلين ونوايا معلّقة. أما السودان فماضٍ في متاهته، لا يسنده عقل الدولة، ولا يجمعه مشروع وطني، ولا يقيه من السقوط إلا بعض الأمل، وبعض الرماد الذي تنتظر فيه العنقاء قدرها الأخير.
العرب