محمد ضياء الدين يكتب.. من جديد الجيش والسياسة: الأخطر من تسييس الجيش هو تجييش السياسة
من جديد الجيش والسياسة: الأخطر من تسييس الجيش هو تجييش السياسة
محمد ضياء الدين
مثّلت حركة 1924 بقيادة الضابط علي عبداللطيف لحظة تأسيسية في مسار النضال السوداني ضد الإستعمار البريطاني، حيث اتحد العسكريون والمدنيون في تنظيم موحد، ليشكّلوا نواة الوعي الوطني الحديث. عبر جمعية اللواء الأبيض التي عبرت عن تحالف القوى الإجتماعية الصاعدة، من عمال وصغار موظفين وتجار وضباط وجنود، حملوا مشعل التغيير بجرأة غير مسبوقة.
هذا التحالف المبكّر أرسى سابقة تاريخية لتداخل العسكري مع المدني، وهو ما ترك بصماته على مسارات السياسة السودانية في مراحل لاحقة. ومع فجر الإستقلال، تحوّل الجيش السوداني تدريجياً إلى فاعل مركزي في المعادلة السياسية، متأثراً بموجات التحولات الإقليمية والدولية. فتيارات القومية العربية والاشتراكية والإسلام السياسي والليبرالية تسرّبت إلى ثكنات العسكر، تماماً كما حدث في جيوش عربية مجاورة. ولم تكن ثورة يوليو 1952 المصرية سوى نموذجاً مُلهماً للضباط الأحرار، الذين رأوا في الانقلابات العسكرية بوابة لتحقيق طموحاتهم الوطنية والأيديولوجية.
هكذا تشكّلت العلاقة العضوية بين السلطة والسلاح في السودان، والتي كرّست نفسها عبر انقلابات متعاقبة، حوّلت الجيش السوداني من حامٍ للوطن إلى لاعب أساسي في ساحات الصراع الداخلي. لكن إرثاً كهذا، وإن بدا مفهوماً في سياقه التأريخي، لم يعد مقبولاً في الواقع الراهن. ففي الوقت الذي أصبحت فيه علاقة الجيش بالسياسة في الدول المتقدمة محكومة بحدود دستورية صارمة، تظل المؤسسة العسكرية في السياق السوداني حبيسة التداخل بين السياسي والعسكري. هنا ولا بد من الإشارة إلى أن تجاوز هذا الإرث يستلزم إعادة بناء جيش محترف خالٍ من الانتماءات الحزبية، يترك صناعة القرارات السياسية للمؤسسات المدنية التي تختص بها. غير أن هذا التحوّل الجوهري لن يتحقق بمجرد قوانين رادعة، رغم أهميتها، بل يحتاج أولاً إلى ميثاق وطني تُجمع عليه القوى السياسية، تلتزم فيه بعدم إختراق المؤسسة العسكرية أو توظيفها في صراعاتها. وفي المقابل، لا بد من (نزع السلاح) الفكري والسياسي من المجال المدني، فالأخطر من تسييس الجيش هو تجييش السياسة، وهي معادلة أفقدت الدولة إحتكارها للعنف الشرعي.
إن إصلاح العلاقة العسكرية-المدنية يشكّل حجر الزاوية في أي مشروع نهضوي حقيقي. فلا إستقرار دون جيش موحّد يخضع لسلطة مدنية ديمقراطية، ولا ديمقراطية دون سياسة تتحرر من هيمنة ثقافة السلاح.
ولا يتأتى ذلك إلا بإعادة تعريف مفاهيم المواطنة والانتماء، عبر تعزيز قيم الحوار والتعددية، وبناء مؤسسات قادرة على تحقيق العدالة دون وصاية العسكر أو هيمنة أي جهة سياسية محددة. بهذه الرؤية يمكن كسر الحلقة المفرغة التي تربط بين العسكر والسياسة، وفتح أفق جديد يضع البلاد على طريق التقدم، حيث تكون السيادة للشعب وحده، ويصبح الجيش درعاً للوطن يحميه من الأخطار، لا سيفاً مسلطاً على رقاب أبنائه.
مداميك