د. أحمد التيجاني يكتب: حكومةُ الوحدةِ والسّلام … حكومةُ التأسيس
حكومةُ الوحدةِ والسّلام … حكومةُ التأسيس
د. أحمد التيجاني سيد أحمد
تتجلى أهمية ما طرحه الدكتور نجم الدين دريسة في مقاله (تحالف تأسيس : مدخل لبناء المشروع المدني في السودان)، حيث أعاد ببصيرة ثاقبة قراءة واقع السودان الحديث، كاشفًا عن زيف الاستقلال الشكلي، وضرورة تأسيس مشروع وطني حقيقي يستند إلى جذور الهوية السودانية وتطلعات شعوبه. مقاله المهم استدعى مقولة الثائر توماس سانكارا: “الاستقلال لا يُمنَح بل يُنتَزع”، ليؤكد أن الشعوب السودانية لم تعرف بعد طعم الاستقلال الفعلي، وإنما عاشت تحت عباءة قوى سلطوية خادمة للمستعمر القديم والجديد.
من جانبي اضيف عواقب الخطا الفادح الذي تاتي به الانقلابات العسكرية ولو احسنت القصد والهدف .
١. من سانكارا إلى تراوري : السيادة في مواجهة الهيمنة
حاول توماس سانكارا عبر حركته الثورية في ٤ أغسطس ١٩٨٣م أن يؤسس لاستقلال حقيقي لبوركينا فاسو، رافعًا شعار السيادة الوطنية والاعتماد على الذات، عبر إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية جذرية. وفي ليبيا، جاء معمر القذافي بانقلابه في ١ سبتمبر ١٩٦٩م ليطلق مشروعًا طموحًا لتنمية بلاده. حقق إنجازات هائلة في التعليم، الصحة، البنية التحتية (مشروع النهر الصناعي العظيم)، وتأميم النفط، لكنه أخطأ بالاعتماد على حكم فردي مطلق دون بناء مؤسسات اجتماعية ومدنية ، مما أدى لانهيار تجربته عام ٢٠١١م. اليوم، يقود إبراهيم تراوري محاولة تحرر جديدة، إذ تولى الحكم في بوركينا فاسو في ٣٠ سبتمبر ٢٠٢٢م بعد الإطاحة بالحاكم المتهم بالتبعية لفرنسا. أنجز خلال عامين إصلاحات في البنية التحتية، الطرق، الطاقة، مكافحة الفساد، ولكنه يواجه تحديات جسيمة من قوى استعمارية ونخب محلية انتهازية.
٢. التصفية والانتكاسات : مصير الثورات المبتورة
أثبت التاريخ أن محاولات التحرر الوطني في إفريقيا كثيرًا ما تنتهي باغتيالات أو تدخلات خارجية. اغتيل باتريس لومومبا في ١٩٦١م، وسانكارا في ١٩٨٧م، وأُسقط القذافي في ٢٠١١م، واليوم يواجه تراوري و عدد من الانقلابين الشباب في اربعة من دول غرب افريقيا تحديات مشابهة وسط مؤامرات إقليمية ودولية تهدف لإجهاض مشروعهم الوطني الرامي الي (انتزاع) استقلال حقيقي بديلا لما (منح) لبلادهم لمواصلة نهب الثروات و اجهاض محاولات تنمية وتصنيع تعود لبلادهم بقيمة تحويلية مضافة.
٣. نحو بديل سوداني جذري : مشروع حكومة التأسيس
في السودان، استُخدم الجيش منذ نشأته عام ١٩٢٥م كأداة قمع داخلي، وظل السودان رهينة النخب و الطبقات السلطوية. انقلابات ١٩٥٨م، ١٩٦٩م، ١٩٨٩م أعادت إنتاج الأزمة. جاء انقلاب البشير والترابي ليسلم البلاد لمشروع إقصائي دمر التعليم والاقتصاد والخدمة المدنية. مشروع حكومة التأسيس يقدم بديلًا جذريًا لبناء دولة مدنية وطنية.
٤. العدالة الانتقالية : لا عفو دون مساءلة
تسعى العدالة الانتقالية في السودان إلى تحقيق مصالحة وطنية قائمة على الاعتراف بالحقائق، جبر الضرر، محاسبة الجناة، وضمان عدم الإفلات من العقاب. التسامح الحقيقي يجب أن يقوم على أساس العدالة لا على النسيان.
٥. أسس مشروع حكومة التأسيس : من الميثاق إلى الجيش القومي
يقوم مشروع حكومة التأسيس على أسس متكاملة:
– أولًا : الميثاق التأسيسي والدستور المدني الدائم: صياغة ميثاق يؤسس لدستور علماني مدني دائم يضمن حقوق الإنسان والمواطنة.
– ثانيًا : تحالف القوى المدنية والأحزاب الوطنية: تشكيل تحالف عريض يمثل كامل الطيف الوطني بعيدًا عن المشاريع الأيديولوجية.
– ثالثًا : تحالف قوى الكفاح المسلح الوطنية: بناء شراكة استراتيجية مع قوى السلاح الوطني لحماية التحول الديمقراطي.
– رابعًا : جيش التأسيس القومي الموحد: دمج القوات الوطنية (قوات الدعم السريع ، الحركةً الشعبية لتحرير السودان جناح الحلو ، الجبهة الثورية الموقعة علي اتفاقية سلام جوبا ، حركة الاسود الحرة )في جيش قومي محترف يحمي الدستور ولا يتدخل في الحكم والسياسة.
– خامسًا : حكومة تكنوقراط انتقالية تنفيذية: تشكيل حكومة مدنية مستقلة تركز على الأمن، عودة النازحين والمهاجرين، وإعادة اعمار البنية التحتية و والاقتصادية والزراعية والتعليمية والصحية والاجتماعية.
– سادسًا : حسم الصراع بانتصار البندقية الحامية للدستور: الانتصار على القوى العقائدية الشمولية عبر بندقية وطنية تحمي الشعب والدستور.
– سابعًا : تحقيق القصاص العادل والتسامح الحقيقي: إقامة محاكمات عادلة دون انتقام، تقوم على جبر الضرر، وإعادة اللحمة الوطنية.
والمواطنة.
٦. لحظة الحسم الوطني : بين المجاعة والنهوض
السودان اليوم على مفترق طرق: إما الاستمرار في الانهيار أو النهوض بمشروع تأسيسي يعيد بناء الوطن، ينقذ ملايين النازحين والجوعى، ويقيم دولة العدالة