عبد الرحمن الكلس يكتب.. أن تكون حقيرًا إلى هذا الحد!

أن تكون حقيرًا إلى هذا الحد!

 

عبد الرحمن الكلس

بلغ قائد الجيش عبد الفتاح البرهان من التِّيه والخَبَل والغباء، أنْ خطبَ في الناسِ خطبةً شَتْراء في اليوم ذاته الذي كان فيه (تحالف السودان التأسيسي) يجري مشاوراتٍ في نيروبي لتشكيل (حكومة السلام والوحدة) في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، وذلك لنزع الشرعية عن سلطته التي يُقيمها في بورتسودان والتي تهدف لتمكين الكيزان وإعادتهم إلى الواجهة مرة أخرى. فقد كان ولا يزال هذا الحدث الأبرز، سواء اتفقت معه أم اختلفت، لكن قائد الجيش انصرف عن كل ذلك إلى إلقاء خطاب يعكس أوهامه ورغباته في الانفراد بالحكم، في بلد تجاوز مرحلة الشلل إلى مرحلة الانهيار والتفكك، فما أتعسه من قائد وما أحقره من إنسان!

خطابٌ مرتجل، غاضب، يفتقر إلى أبسط القواعد الوطنية والمهنية، بلا هدف، حتى وصفه البعض بأنه بدا كـ (الممسوس إذ يتخبطه الشيطان)، فلا يدري ما يقول، ولا يدرك ما يدور حوله من أحداث. إنه رجل خارج الزمان والمكان، غارق في الخوف والغضب، ولهذا عجز عن تصويب خطابه نحو أهدافه الصحيحة، فأضحك عليه الأمة من صغيرها إلى كبيرها، وسخر منه الجميع بلا استثناء، خصوصًا حين جعل نفسه لسان الشعب الذي مزقه وقتله ودمّر أحلامه بالانقلاب والحرب!

بلغ الرجل ذروة الغضب في خطابه حين تحدث عن رئيس وزراء الانتقال الديمقراطي السابق، الدكتور عبد الله حمدوك، ذلك الرجل الذي يحظى باحترام واسع لدى الشعب السوداني والمجتمع الدولي. فهو شخصية مؤهلة، ذات خبرات كبيرة ومتنوعة في الإدارة والاقتصاد والحوكمة والديمقراطية والمساعدة الانتخابية. كما عمل خبيرًا اقتصاديًا في البنك الأفريقي للتنمية ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا. وعندما تولى منصب رئيس وزراء حكومة الثورة، حقق إنجازات غير مسبوقة، ويكفيه أنه أخرج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وتمكن من الحصول على إعفاءات ضخمة للديون المتراكمة، وخطى بالبلاد خطوات كبيرة نحو الاستقرار الاقتصادي والسياسي، لولا أن قطع عليه البرهان الطريق بانقلاب 25 أكتوبر 2021، ثم فاوضه وهو في الأسر وأبقاه في منصبه، غير أن الرجل المحترم تقدم باستقالته بعد أن حصل على ضمانات بإطلاق سراح طاقم حكومته. غادر البلاد بلا اكتراث للمنصب الذي قبل به من أجل خدمة بلده، لكن إحساس البرهان بالنقص والهوان، وهو يرى الدكتور حمدوك يُحظى بالقبول ويجلس بين الكبار، في المجتمعين الدولي والإقليمي وبين السودانيين المحترمين الذين يتحدثون عنه بكل احترام وتبجيل، جعله محل استهداف لنيران البرهان ليل نهار. لذا، خصص خطابه البائس هذا للنيل من الرجل النبيل والوطني الكبير، ثم نسب كل ذلك إلى الشعب، وكأنه نظّم استفتاء عامًا لشعب ظل يردد “شكراً حمدوك” ليل نهار! وكأن البرهان، قاتل الشعب وممزق البلاد وصاحب المشروع العنصري الانفصالي، يمثل الشعب، بينما الشعب غاضب منه ولا يطيق سماعه، بعدما أعاد النظام البائد الذي ثار عليه الشعب إلى الحكم، ثم زج به في حرب أحرقت الأخضر واليابس. فعن أي شعب يتحدث البرهان؟ عن أي شعب؟!

الأمر الأشد مرارةً وإهانةً هو أن يتولى قائد الجيش نفسه إيصال دعوة قائد مليشيا (البراء بن مالك الإرهابية)، التي وجهها إلى المهندس خالد عمر يوسف، نائب رئيس حزب المؤتمر السوداني والقيادي البارز في تحالف (صمود)، طالبًا منه أن يعود إلى البلاد ويتنازل عن بندقيته ليقاتل قوات الدعم السريع! هذا انحدار غير مسبوق وسقوط لم يُعرف له مثيل. فكيف لقائد جيش أن يقبل لنفسه الدنيّة بأن يعمل مراسلاً لهذا الصبي المتطرف المعتوه، ويردد كالببغاء ما يكتبه في صفحته؟!

وخالد عمر يوسف سياسي معروف بموقفه المناهض للحرب، فهو أحد أبرز دعاة (لا للحرب). وقد أعجبني رده على البرهان وصبي الأواني المنزلية، حيث شكر قائد الجيش على الدعوة قائلاً: “أشكرك على هذه الدعوة، وأعتذر عنها، لكن لا أخفي عليك شديد استغرابي منها. فقد عرفتني طوال السنوات الماضية داعياً للسلم، لا للعنف والاقتتال. لم أكن يوماً من دعاة الحرب أو الدمار.”

يبدو أن البرهان يعاني من رهاب (حمدوك/سلك)؛ فالأول، إن كان يسعى لمنصب رئيس الوزراء، لبقي فيه بعد أن عيّنه البرهان نفسه ووقع معه اتفاقًا، لكنه رفض أكل الميتة واستقال بعد أن ضمن إطلاق سراح زملائه في الحكومة. أما الثاني، فهو لم يدعُ للحرب أصلاً، بل ظل مناوئًا لها، مطالبًا بوقفها فورًا والجلوس إلى طاولة المفاوضات، ومواقفه معروفة ومعلنة على الملأ. لكن البرهان يخشاهما كما يخشى الفأر القط والطريدة المفترس، لأنه يعلم أنهما أحق منه بالمنصب الذي لا يسعيان له أساساً، ولهما قاعدة شعبية أوسع منه، ويحظيان بالاحترام والتقدير والكفاءة التي لا يملك منها شيئًا. فهو منبوذ داخليًا وخارجيًا، كونه تافهًا ووضيعًا، مجرم حرب، منشئ مليشيات، مدمّرًا للبلاد، ناهبًا لمقدراتها، ومهجّرًا لأهلها.

لقد كان خطاب البرهان في غاية الرداءة والانحطاط، يتزلف به للكيزان ومليشياتهم (البراء) الإجرامية وقائدها. ومن الواضح أنه تعرض لضغوط وتهديدات كبيرة، بعدما صرّح سابقًا بأن حزب المؤتمر الوطني يجب أن يبتعد عن المزايدات، وألا يأمل في العودة إلى الحكم عبر أشلاء السودانيين. وها هو اليوم يتراجع عن ذلك، مهاجمًا عبد الله حمدوك وخالد عمر يوسف، مرددًا خطاب الإرهابيين وعلى رأسهم قائد مليشيا (البراء)، في موقف أهدر فيه ما تبقى من ماء وجهه، وأثارت كلماته الشفقة والرثاء والخجل.

لكن… هذا هو *البرهان*!
وكفاه عارًا أن اسمه أصبح وصفًا يعني: *أن تكون حقيرًا إلى هذا الحد.*

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.