▪19يوليو .. خــــريـــف الدمــــاءِ والدمــوع ولحَن الخــــلود..
بقلم: عــبــد المــنــعــم عـــيـســي كرار..
مع بزوغ فجر الجمعة الموافق 5 سبتمبر عام 1975 حمَل الراديو خبر إنقلاب المقدم حسن حسين عثمان ، وقد كان ذلك هو الإنقلاب الثاني ضد سلطة الرئيس جعفر نميري بعد إنقلاب 19 يوليو الشهير الذي قام به الرائد هاشم العطا في العام 1971.
كُلْ ما أذكرهُ في ذلك الزمان وأنا على أعتاب المرحلة الثانية من الطفولة ؛ ساعياً وقتها لإكتسابْ شيئاً من التعلُّم والملاحظة.
كانت أسرتنا تتقاسم السكن مع أسرة العم الراحل الجيلي حبيب الله في ذات المقام الكائن الآن بحي البترول بمدينة الأبيض ، أخذت الشمس مسارها نحو الأعلى ثم كان شروق ذلك اليوم ، على غرفةٍ صغيرةٍ لها بابٌ يطلُّ على الشارع وآخر نحو الداخل جلس أبي وعمي أحمد وعلى ما أذكر كان الشاب الراحل (الوسيم) محي الدين الجيلي حضوراً كذلك ؛ ولعَمري لم أرى شاباً بهدوء وتهذيب وثقافة محي الدين طِيلة حياتي ، يومئذً لم يستطيع أن يعزف على آلة الفلوت ذات الرأس العاجيّ التي طالما أحبّ العزف عليها لأن الحزن كان هو الغالب .. وعلى تربيزةٍ خشبيةٍ متوسطة الحجم كان الراديو يبثُ شيئاً يبدو بالنسبة ليّ مُبهماً بعيد الغوَر عصيّاً على الفهم والإدراك (أدركت فيما بعد بأنّ ذلك كان هو بيان الإنقلاب و موسيقَى المارشات العسكرية) ، فقط ما أذكرهُ جيداً عن ذلك اليوم هو دموع أبي وعمي أحمد قبل أن يلتحق بهم عمي إسماعيل الذي يصغرهُم سناً وكان يجهشُ بالبكاء هو الآخر ، أنسحبتُ إلى داخل البيت مندهشاً ومتسائلاً في ذات الوقت لأخبر أمي بذلك ووجدتها هي الأخرى في حالةٍ من البُكاءِ والحزن ثم قالت لي : إتذّكروا بشير .. بشير منو ؟ بشير عمك.
في وقتٍ لاحق عرّفتني أميّ العزيزة على حياة الشهيد بشير التي لم تطوَل كثيراً ، من خلال ألبوم الصور الخاص بها ومع بعض الذكريات الخالدة في وسط الأسرة الكبيرة والأهل والتي مازالت حتى اليوم جُرحاً غائراً في الروح ولم يندمِلْ بعد.
درس الشهيد بشير عبد الرازق في مدرسة خور طقت الثانوية وكان يسكُن داخلية (ود التوم) ، وأيضاً درس الشهيد حسن حسين في مدرسة خور طقت الثانوية وكان يسكُن داخلية (دينار) ، ومع مطلع يوليو من العام 1976 تم الحكم عليه بالإعدام وقد تم التنفيذ فجراً ، حسن حسين أبن حي السجن القديم بمدينة الأبيض حيث منزلهم العريق الذي يجاور مسجد القاضي عربي وهو حفيداً له.
جمعت بينهم مدينة الأبيض ثم مدرسة خور طقت الثانوية وأخيراً الكلية الحربية رغماً عن فارق السنين والدفعات ، ثم كان المصير المحتوم والمشترك بينهم وكأنهما قد أصغوا السمع إلى غسان كنفاني حين قال : إحذروا الموت الطبيعي ، ولا تموتوا إلّا بين زخات الرصاص ، وقد كان ذلك.
لطالما كنتُ فخوراً وقريباً من جدتي العزيزة (سعيدة بت المكي) أم الشهيد بشير تلك المرأة العظيمة التي صبرت كثيراً على رحيل إبنها باكراً ، عاشت بين أولادها الكِبار وأحفادها الصغِار وهي تتفقدهم وترعاهم الواحد تلو الآخر ، إنتظرت كثيراً من يدُلها على قبر أبنها المفقود زُهاءْ الخمسْ والثلاثون عاماً قبل أن يتوسد جسدها الطاهر مقابر دليل المحسي تحت ظلال أشجار الهجليج الوارفة ، بعد أن أعياها طول الإنتظار ولسانِ حالها يقول : سأنتظرك غداً ، وإن لم تأتي ، فكل الأيام غداً حتى تعود.
في شتاء عام 1970عندما كان الشهيد بشير عبد الرازق في دورة فنِيي الوحدات الميكانيكيّة المُدرّعة في أكاديميّة أنطُوان زَابوتتس العسكرية الفنيّة في بلدة (برنو) بجمهورية تشيكوسلوفاكيا ، بعث لوالديّ بكرتٍ أنيق عليهِ صورة مدينة براغ الجميلة ، وقد كتب على الخلفية بعد التحية والسلام والتهنئة بالعيد ؛ سائلاً عن أحوال الأسرةِ والأهل ، ثم مضى واصفاً طبيعة أوربا وظروف التدريب آنذاك ، قبل أن يختمُ رسالته بتلك الجملة الجميلة : لازال الجليد يتساقط ويكسو الأرض بياضاً على الرغمْ من أنَّ موسم الربيع قد أوشك.
في ربيع العمر ؛ إستشهد النقيب بشير عبد الرازق في فجر يوم 24 يوليو 1971 في مدرعات الشجرة بالخرطوم ، مات كما مات لوركا شاعر الأندلس العظيم ، حيّن قال البياتي : وصاح في غرناطةٍ معلّمُ الصبيان… لوركا يموتُ ، أعدمهُ الفاشستُ في الليلِ على الفراتْ).
قديماً قالوا : إنّ في الحياةِ ألماً كبيراً ، وإنّ سرورِ الحياة أكبر من ألمِها ، ولكن الحياة نفسها أكبر من كل ما فيها من الألم والسرور.
في حادثٍ مأساوياً أليّم رحلْ الأخ العزيز محي الدين الجيلي ذلك الشاب الخلوق جميلُ الروحِ والمحيا الذي لم يتحمّل عناءْ المرض وقسوةِ الحياة ، ولكم تمنيت أن يعودُ بي الزمن إلى الوراءْ ثم أجلس من تحت نافذة الغرفةِ الصغيرة تلك ؛ و أستمعُ إلى (محي الدين) وهو يعزفُ على آلة الناي .. لحن الخـــــلود.
▪أديس أبابا / 20 يوليو 2024