طبقات فحول العملاء!!
(1)
لا فرق – مطلقاً لا فرق – بين من يخُونُ وطنهُ “بذكاء” ، و بين من يُحِبُّ وطنه “بغباء”..
و هذان الشخصان أعلاه ، هُما من ظلَّ شأن السودان مشاعاً بين أيديهما ، منذ الاستقلال، و لكن جائحة الخيانة تتاخم نهاياتها الخطرة هذه الأيام.
(2)
قبل رُبع قرنٍ ، لقيني صديقي “عبدالله جربوكس” الميكانيكي ، فبادرني ، معلِّقاً على مقالةٍ قرأها لي في اليوم السابق :
– إنت موهوم..
كان عبدالله يومها كهلاً في حوالي الخمسين.. و كانت مقالتي ، التي لم تخلُ من حماسٍ ساذج ، تتحدث عن حُبِّ الأوطان و خيانتها ، و تستشهد – في صدد الإخلاص و النُّبل الوطني – ببعض رموز “الاستقلال”..
سألته يومها :
– موهوم كيف؟؟..
– ما حأقول ليك كيف ، لكن حأحكي ليك حكاية عشتها شخصياً ، و بعدها حتكتشف إنك فعلاً موهوم..
(3)
برغم أن عبدالله ، المولود أواخر أربعينيات القرن الماضي لم يتجاوز في تعليمه النظامي المرحلة الوسطى، لينخرط بعدها في مجال العمل الحرفي ، كميكانيكي سيارات، إلاَّ إنّه كان شغوفاً بالقراءة متعدِّدة المشارب، فكان نموذجاً للمثقف التقليدي آنذاك.
حدثني عبدالله جربوكس عن قريته التي نشأ فيها في أحد أصقاع السودان، و عن عمدة القرية الذي كان والده ، قال إنه يذكر جيداً أسلوب الحكم الرشيد، وضبط الأمن الذي كان يبسطه والده العمدة على القرية.
• ثم حدثني عن التطورات الخطيرة والفجائية، التي أدت إلى نهاية كل شيء، العمدة، والقرية، وشيخ الحلة “حاج طه”، والشاويش حسن وعساكره، وحاج أيوب التاجر، وفكي أبكر شيخ الخلوة، و«أمين أفندي» ناظر المدرسة.
• والمسألة بدأت، فيما يذكر عبدالله ، بعد عودة أبيه العمدة – مباشرة- من زيارة إلى العاصمة، لمقابلة «الحكومة» آنذاك (كان ذلك بُعيد الاستقلال ببضع سنين).
• والراجح عند عبدالله، هو أن أباه، الشيخ الأمي الحكيم الطيب، قد لقي في زيارته تلك «أفندياً» كبيراً بالحكومة (لعله «مأمون أفندي» الذي كان العمدة يلهج بذكره ويطنب في ذكر حنكته ودهائه كلما وجد سانحة)… ولا بد أن ذلك الأفندي قد زوَّد العمدة ببعض «نظريات» الحكم الحديثة.. فقد عاد العمدة من زيارته تلك، فلم يعد يتحدث إلا عن خطر واحد: «العملاء»..
– أخطر ما يهدد استقرار بلدنا وأمنها، يا ولدى، هم العملاء!!
= ومن هم العملاء هؤلاء يا عمدة؟!
(هذا السؤال سأله الجميع، عبدالله جربوكس ، وشيخ الحلة، وحاج أيوب، وفكي أبكر، أما الشاويش حسن فلم يسأل، لأنه كان يعرف جيداً من هم العملاء!!(.
– العملاء؟ أمممم… العملاء هم الذين يخدمون مصالح العدو.. هم الذين يعيشون بيننا ويعرفون أسرارنا كلها، فيكشفونها للعدو.
• الشاويش حسن، مساعد العمدة، كان يعرف الكثير عن «العملاء».. ولهذا كان أول الحضور، وأول المتحدثين بعد العمدة، في الاجتماع «السري» الذي دعا إليه العمدة أركان حربه، لبحث أنجع السبل لمكافحة وكشف ومعاقبة العملاء..
• حضور الاجتماع كانوا شيخ الحلة، وحاج أيوب «سر التجار».. وفكي أبكر، والشاويش حسن.. أما «أمين أفندي» ناظر المدرسة، فقد كانت نصيحة الشاويش حسن للعمدة عدم دعوته، لأنه كانت تساوره حوله بعض الشكوك..
• تحدث العمدة عن خطر العملاء وضرورة كشفهم وسد المنافذ عليهم.. وتحدث الشاويش حسن حديث خبير عن خصائص العملاء، وعلاماتهم الصغرى والكبرى.. كيف يتحدثون، وكيف يلبسون، وكيف يأكلون!! وتحدثوا جميعاً عن ضرورة السرية الكاملة ومباغتة الخصوم… وانفض الاجتماع بتكليف الجميع بتعقب العملاء وتقديمهم إلى المحاكمة..
*** *** ***
• بعد الإجتماع مباشرة، كان العمدة قد بدأ يعاني بعض الظنون تجاه «شيخ الحلة».. فقد كان قليل الكلام، دائم السرحان، أثناء الاجتماع وهذه من العلامات التي ذكرها الشاويش حسن..
• شيخ الحلة كان أثناء الاجتماع «سارحاً» يجتر بعض خواطره القديمة حول العمدة.. من أين جاء بكل هذا المال إن لم يكن عميلاً؟ وما سر العلاقة المريبة بينه وبين حاج أيوب التاجر؟ ولماذا كلما عاد الأخير من سفر اجتمع بالعمدة طويلاً؟
• حاج أيوب، الذي زار بلاداً كثيرة، وتعامل مع خلق كثيرين – نصفهم تقريباً من العملاء- كان يعرف بخبرته الطويلة أن العميل الحقيقي هو آخر من يلفت إليه الأنظار.. وهذه علامة لا تتوفر إلا في «فكي أبكر» شيخ الخلوة، الذي يحترمه الجميع، ولا يستطيع الشك في أمانته أحد.. فالعملاء الحقيقيون هم الذين يجيدون كسب ثقة الناس واحترامهم!!
• فكي أبكر كان دائم التوجس من الشاويش حسن، ذلك المغرور، الذي لا يهتم كثيراً بالصلاة، ولا تبدو عليه مخافة الله.. غمغم لنفسه: «الما بخاف الله خافو!!».
• أما الشاويش حسن، فقد كان يضحك وهو يحدث أمين أفندي، كيف ضلل «العملاء» وأوهمهم بأنه لا يشك فيهم، وكيف أنه صرف أنظارهم إليه هو – أمين أفندي- حتى يتحركوا بحرية، فيصطادهم واحداً واحداً.. قال ضاحكاً:
– العمدة ظن نفسه ذكياً، خاف أن أكشف عمالته، فعاد إلينا من العاصمة بحكاية «العملاء» هذه، حتى «يغبي الأتر»، وقد ذكرت لهم خصائص وهمية للعملاء، حتى يطمئنوا!!
• بعد شهر واحد – الحديث لعبدالله جربوكس – اجتمع في ديوان العمدة «أركان حربه» كلهم، كل واحد منهم كان يداري في كمه قائمة بأسماء العملاء الذين استطاع كشفهم.
• العمدة الذي اكتشف بالملاحظة أن قائمة العملاء لديه أكبر بكثير مما كان يظن، كان يفكر في طريقة يُلغي بها «الاجتماع» أو – على الأقل – يؤجل التداول في هذه القضية التي أصبحت أخطر مما يمكن السماح بتداوله في اجتماع جميع أعضائه – ما عدا العمدة طبعاً – هم عملاء.
• الشاويش حسن تنفس الصعداء حين همس العمدة في أذنه أنه ليس من الحكمة إعلان أسماء العملاء هنا، أو محاكمتهم هنا.. الأفضل أن تودع جميع قوائم المتهمين لدى العمدة الذي سوف يقوم بإيصال الأمر إلى الحكومة لتتصرف هي معهم بمعرفتها.
• العمدة كان قد قرر في نفسه تجاهل جميع القوائم والذهاب بقائمته إلى المسؤول الكبير «مأمون أفندي» الرجل القوي الأمين الذي يعرف حتماً كيف يخلص القرية من العملاء، وخصوصاً هؤلاء الذين يحيطون بالعمدة ويظنون أنه لا يعرف عمالتهم.
• الشاويش حسن وجد في اقتراح العمدة مخرجاً جيداً، فقد كان ينوي إعطاء العمدة قائمة وهمية، ثم يذهب هو بالقائمة الحقيقية إلى مسؤول كبير في الحكومة، يعرف أنه مهتم بمسألة العملاء، إسمه «مأمون أفندي».
• الأفكار ذاتها كانت تدور في أذهان جميع أعضاء لجنة «كشف» العملاء: حاج طه شيخ الحلة، وفكي أبكر، وحاج أيوب.. كلهم كانوا قد أعدوا قوائم وهمية ليعطوها للعمدة وكل منهم كان قد قرر السفر بقائمة «العملاءِ» الحقيقية إلى مسؤول كبير ونافذ في الحكومة اسمه «مأمون أفندي»..!!
انفض الاجتماع بسلام وكل منهم يضحك في سره وهو يتخيل الآخرين في حبل المشنقة..
• بعد يومين كان الرجل الكبير مأمون أفندي يستقبل في مكتبه بالأحضان «جناب العمدة» ويستلم منه قائمة بأسماء «العملاء» في قريته، ويشكره على إخلاصه للوطن، ويعده «بإجراء اللازم»، والعمدة يخرج من مكتبه طرباً راضياً عن نفسه ووطنيته، وبعد خروج العمدة بساعة كان الرجل الكبير يعانق الشاويش حسن ويمدح إخلاصه ووطنيته وهو يقول له ضاحكاً: خلاص صاحبك العمدة وجماعته انتهوا.. والشاويش يؤدي تحية ضخمة ويخرج راضياً عن نفسه.. والمشهد ذاته تكرر بضع مرات: فكي أبكر وشيخ الحلة وأمين أفندي وحاج أيوب، كل منهم عانق الرجل الكبير وتناول القهوة في مكتبه وأعطاه قائمة بأسماء «العملاء».
عند هذا الحد من حكايته ، قاطعتُ صديقي عبدالله جربوكس، مبدياً ارتيابي في روايته كلها ، قلت:
– المؤكد هو أنك حضرت اجتماعات والدك العمدة ، و لكن كيف عرفت بسفر كل فرد من أفراد مجلسه بقائمته إلى “مأمون أفندي”؟ بل كيف عرفت أنّهم قابلوهُ بالأساس و أنت كنت حينها صبياً لم يتجاوز الخامسة عشرة؟؟؟..
– حقاً ، لم أشهد سفرهم و لا قوائمهم و لا أعرف ، حتى الآن، من هُو مامون أفندي ، و لكن، ثلاثة من أولئك الرجال ، بعد عشرين عاماً من تلك الحادثة ، حكوا لي ، ساخرين من أنفسهم ، ما جرى. عمي الشاويش حسن، الذي أصبح قصَّاباً بعد تقاعده، و حاج طه ، شيخ الحلّة الذي أصبح عمدة بعد وفاة الوالد، و أستاذ أمين أفندي ، الذي كان “ناظر” مدرستنا، كنتُ أزورهُ كلما عدتُ إلى القرية ، كان قد تقاعد ، و كان رجُلاً عذب الحديث ، ساخراً و حكيماً ، حين ذكرتُ له ، في جلسة أُنسٍ معه ، اجتماعاتهم مع العمدة “رحمهُ الله” التي شهدتها صبيَّاً ،خصوصاً تلك التي كانوا يناقشون فيها أمر “العملاء” ، قال لي ضاحكاً :
– كُنَّا أغراراً يا ولدي .. لقد استخدمنا (العميل الحقيقي) “مأمون افندي” بذكاءٍ يُحسدُ عليه !!.. و انتهى الأمر بفتنة تشتّتَ بعدها شملنا.
– و من هو “مأمون افندي” يا أستاذ؟؟
– رجُلٌ غامض، تمكن من إيهام كلٍّ منَّا أنّه قيادي في الحزب الذي ينتمي إليه، أقنعني بأنه تقدُّمي شيوعي، حين عرف أنني كنت أنتمي حينها إلى الحزب الشيوعي، أما عمك الشاويش حسن فإنه يؤمن حتى اليوم، و اسأله إذا مررت بجزارته، بأنّ مأمون أفندي “وطني إتحادي” مثله ، و حاج طه لا يشك في أن مأمون افندي كان قياديّاً كبيراً في حزب الأمة الذي ينتمي إليه حاج طه !!..
– و ما الذي فعله “مأمون افندي” بقوائم العملاء، بعد أن تسلمها منكم يا أستاذ أمين؟؟
– لا أدري بالطبع ، و لكنني أتصور “سيناريو” محدَّداً ، هو الأقرب إلى تفسير كل ما حدث
– ما هو ذلك السيناريو؟
أتصور أنه، و بعد أن جاء ومضي آخر زوار السيد «مأمون أفندي» ، تنفس الرجُلُ الصعداء ، ثم أخرج من أحد أدراج مكتبه خارطة، ووضع علامة بالقلم الأحمر على قريتنا ، ثم كتب بجانبها الرقم «20» ثم مضى إلى الهاتف وطلب رقما وتحدث:
( تمام سعادتك .. إنتهينا من عشرين!!)…
و لابُدّ أنه لم ينس أن يمزق قوائم العملاء التي جاءته من أركان قريتنا ويلقي بها في سلة المهملات..
• هامش:
• لم يعُد العُملاءُ هُم أولئك الذين ينهمكون في عملهم بموجب “صفقةٍ” مع جهةٍ ما .. أخطر العُملاء في زماننا هُم أولئك الذين لا يعرفون أنهم عُملاء!! أمثال العمدة وأركان حربه!!