عن (الغباء الإستراتيجي الخلاق) .!!!

علي يس

تحطيم “هيبة” الجيش السوداني ، هدف استراتيجي لجهة ما ، تستخدم – في ما يبدو لي – عدة مخالب و بتنسيق محكم بين هذه المخالب، سواء بوعي منها أو بتدبير محركها.
أكبر هذه المخالب هو عناصر المؤتمر الوطني ، و تأتي بعده مباشرة آلة إعلامية طاحنة و ماكرة ، ظاهرها مساندة الجيش ، أو – على الأقل – إتاحة فضاء إعلامي إقليمي عادل للجيش ، في مقابل قوات الدعم السريع. و لا أظن أن مخططي سياسة الفوضى الأمريكية الخلاقة بعيدين عن هذا المخطط الإعلامي الشيطاني ، الذي أستطيع أن أخمن له عنوانا ، أو قل “كلمة سر” هي (خبراء عسكريون إستراتيجيون)..
ربما لم يجد القارئ ، حتى هذا السطر ، ما يمكن أن يربط بين المؤتمر الوطني و فوضى أمريكا الخلاقة و الخبراء العسكريين الإستراتيجيين ، فأرجوه صبرا جميلا.
درجت كثير من الفضائيات الإقليمية ، و منذ الخامس عشر من أبريل ، على استضافة أشخاص بعينهم ، بصفة (خبير عسكري إستراتيجي) ليتحدثوا ، من واقع خبراتهم العسكرية و الإستراتيجية المزعومة ، معبرين عن الجيش السوداني.. و بغض البصر عما يعبر عنه حال الجيش السوداني اليوم من افتقار كامل إلى “الخبرة العسكرية” – دع عنك الإستراتيجية – فإن اختيار معظم من تتم استضافتهم بهذه الصفة يبدو اختيارا مقصودا ، فجميع هؤلاء الخبراء تدعو إفاداتهم إلى السخرية أكثر من أي شيء آخر.
دونكم ، مثلا ، ذلك المقيم في القاهرة ، و الذي أصبح ضيفا دائماً لدى عدد من قنوات التلفزة المصرية و الخليجية ، يقدمونه بلقب (الخبير العسكري الإستراتيجي سعادة اللواء…….، و كأن هذه الفضائيات تتعمد كسر رتابة أخبارها بفاصل “فكاهي” فالذي يسمع إفادات اللواء حول الحرب الدائرة في الخرطوم ، إن كان عربيا لن يملك إلا أن يضحك ملء شدقيه ، أما إن كان سودانيا فخياره الوحيد البكاء فقط على حال جيشه الذي يتحدث باسمه ذوو الإعاقات الذهنية ، و بصفة “خبراء عسكريين إستراتيجيين” !! ..
فالرجل الذي يملك فقط إجابة واحدة على جميع الأسئلة التي تطرح عليه ، سواء حول واقع العمليات العسكرية أو حول مدى قدرة الجيش على حسم المعركة أو حول إمكانية إبرام اتفاق ينهي الحرب أو….
و لكن مشكلة الرجل ليست في إجابته الواحدة ، و التي يفترض أن يكون قد حفظها عن ظهر قلب من كثرة ترديدها عبر الفضائيات ، المشكلة المثيرة السخرية و للرثاء أيضا ، هي أنه في كل مرة يضطر إلى التغني بعبارته التي حفظها جميع المشاهدين الذين صادفوه ، لا بد أن يتلعثم ، يتأتئ ، يفأفئ ، و يمأمئ قبل أن تخرج كلماته مقطعة إربا إربا “بما يشبه الولادة القيصرية” : آ…آ… آ… إسرائيل…. ت..ت…تعلم…. أن… تا…تا…تابوت العهد موجود… بالسودان..
يمضي الخبير العسكري الإستراتيجي ، كل مرة ، في حكاية قصة حول وجود هيكل سليمان و تابوت العهد بالسودان ، كسبب إستراتيجي لهذه الحرب التي تدور في الخرطوم!!!…

جنرال آخر تعودت فضائيات عربية كالجزيرة و الحدث و العربية على استضافته بذات اللقب الممتهن: الخبير العسكري الإستراتيجي ، أدخلنا كسودانيين في كثير من الحرج حتى مع المذيعين الذين يستضيفونه و في كثير من الأحيان يسخرون من إجاباته التي تكشف كذبا ساذجا و مفضوحا ثمرته الوحيدة هي وضع الجيش السوداني موضع السخرية و الاستخفاف..
و غير هذين أيضا ، حيثما وجدت نفسك أمام فضائية عربية تستضيف شخصا قدم نفسه بلقب “خبير عسكري إستراتيجي” لن تنجو من إحساس ثقيل بالحرج أمام شخص يتحدث باسم جيش بلادك حديثا هو أبعد شيء عن الخبرة العسكرية ، إستراتيجية كانت أو (تاكتيكية)..
ستجد نفسك ، رغماً عنك ، متسائلا:
– ألا يكفي جيشنا الحال المحزنة التي هو فيها ، حتى يجعله منتحلو شخصية (خبير عسكري إستراتيجي) هؤلاء مثار سخرية للعالمين ؟؟!!!…
لكن، من يلوم هؤلاء، بعد أن أكد قائد جيشنا نفسه، بعيد انطلاق الحرب العبثية، أنه لا يوجد خبير عسكري إستراتيجي واحد في جيشنا، بقوله أنه (كان يظن أن الدعم السريع لن يشن عليه حربا)!!!
و بغض البصر عما إذا كان من شن الحرب الدعم السريع أم جهة أخرى، فإن قيادة جيش تبني مواقفها العسكرية على (الظن) هي بالتأكيد غير جديرة بموقع القيادة و لو في أدنى مستوياتها.

لم يسجَّل على قائد عسكري ، منذ آلاف السنين – حين لم يكن هنالك كليات حرب و لا أكاديميات عسكرية و لا كليات “قادة و أركان” ولا خبراء عسكريون إستراتيجيون – لم يسجل على قائد قوله ، تبريراً لأخطاء ارتكبها : ( كُنَّا نظُن..)!!!..
حتى في التاريخ العسكري السوداني الوسيط ، لم يؤثر عن القائد العظيم عثمان دقنة أن برَّر خطأً عسكرياً له بالقول : (كُنتُ أظُنُّ…)
و برغم ما أصاب جيش (عبدالرحمن النجومي ) من هلاكٍ و تشتُّتْ ، لم يقل : (كُنتُ أظُنُّ…) بل واجه الموت كما ينبغي لقائد أن يواجهه…
بل حتى الخليفة عبدالله التعايشي ، الذي ارتكب أخطاء كارثية ، آخرها محرقة كرري التي كان يمكنه تجنبها لو أصغى إلى قائده عثمان دقنة ، لم يبرر أخطاءهُ بالقول : (كُنتُ أظُنُّ…..) بل مضى إلى حيث استقبل الموت على فروته..
و لكن من ظل ينظر إلى الدعم السريع – الذي خرج من (رحم) جيشه – و هو يبني نفسه بكل وسائل القوة من مال و سلاح و علاقات دولية و وضع دستوري و قواعد شعبيَّة ، من ظل ينظر إلى كل هذه التطورات ثم ينتظر من الدعم السريع أن يبقى له خادما مطيعا ، راح يبرر عجزه بالقول : (كُنَّا نظُنُّ…)..
لو أنَّ مزارعاً جاهلاً ، زرع حنظلاً ، ثم لمّا أثمر قال : (كُنتُ أظُنُّهُ بطيخاً).. لأجبره الناس على أكل “حنظله” حتى الثمالة ، ثم ربما لجلدوه مائة جلدة و منعوه من ممارسة الزراعة إلى الأبد !!!…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.