يتأسس “الإعلام” عموما ، في السلم أو في الحرب ، على ما توفر للإنسان من معارف في مجال ما اصطلح على تسميته اليوم “بعلم النفس الاجتماعي”، حيث يتلخص الهدف الأساس في التأثير النفسي على متلقي الرسالة ، بحيث ينقاد إلى اتخاذ موقف محدد تجاه قضية ما ، فكرة ما ، أمة ما ، أو شخص ما.
فكان التطور الذي حققه الإعلام منذ أقدم العصور ، مرتبطا وثيقا بما حققه الإنسان من معارف متجددة في مجال علم النفس الاجتماعي ، من ناحية ، و من ناحية أخرى بما توفر من تقدم صناعي و تقاني في حقل وسائل و وسائط الإعلام.
من حيث نوع الأهداف، ينقسم الإعلام إلى “إعلام تربوي” أو استراتيجي ، و “إعلام تعبوي” أو مرحلي ، و هذا القسم الأخير هو الذي ينتمي إليه موضوع هذه المقالة: إعلام الحرب،. أو الإعلام العسكري ، أو (التوجيه المعنوي) كما تسميه المؤسسات العسكرية.
يستهدف الإعلام التعبوي عموما التعبئة النفسية للمتلقي، مع/ أو ضد قضية بعينها، و في حال الحرب يكون الهدف هو حشد مشاعر الناس عموما ، و “الجند” خصوصا إلى جانب الجيش في حربه ، بالدعم المعنوي و المادي.
قبل الحرب العالمية الأولى ، لم تكن تقنيات الإعلام ولا وسائطه قادرة على تجاوز إعلام الحرب حدود الجغرافيا المحدودة لفاعليات الحرب نفسها إلا بشق الأنفس ، حيث كانت المؤسسية في الإعلام الحربي منعدمة أو محدودة بحيث لا يستغنى عن جهود (المتطوعين) في نقل أخبار الحرب ، إذ كان أقصى ما بلغه التقدم في وسائط الإعلام حتى قبيل الحرب الأولى هو ما أسموه حينها “التلغراف” و الذي تم تعريبه إلى “البرق” و هو كان في وقته تقنية معقدة ، تنقل الرسائل عبر شفرة سميت بشفرة مورس، نسبة إلى واضعها ، و تحتاج إلى تقنيين مدربين .
لكن مع التطور المطرد في تقنيات و وسائط الإعلام ، عمدت الجيوش و المؤسسات العسكرية إلى احتكار الإعلام العسكري ، بحيث لا يسمح لمتطوعين بتناول الشأن العسكري إلا بٱشراف كامل و وفق ضوابط صارمة ، وذلك تحسبا من مخاطر اختراق استخبارات العدو للإعلام العسكري من خلال متطوعين يبثون رسائل في ظاهرها الرحمة و من قبلها العذاب ، و هذا عين ما يحدث الآن في حرب السودان ، و لدى الطرفين ، و لكن القسم الأكبر من الاختراق ، كما يبدو واضحا من بعض “المتطوعين” ، يستهدف الجيش ، إذ يتضرر الجيش السوداني بشكل بالغ ، من “المساندة” الظاهرية من بعض نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي ، الذين يستطيع من يقوم بتحليل خطابهم بشكل موضوعي ، أن يتوصل إلى احتمال توظيفهم من قبل جهات – داخلية أو خارجية – بمكر شديد ، لإيقاع ضرر بالجيش.
في النسخة القديمة من “الإعلام العسكري التعبوي” كان مسموحا ببعض الكذب – القليل منه – و ذلك فقط عند حدوث انتصار متواضع يتم تضخيمه ، إذا تم تدمير عشر آليات مثلا يذاع أنه تم تدمير خمسين آلية للعدو ، و المستهدف من ذلك الإعلام ليس عامة الناس و لكن الجنود في المقام الأول ، لرفع روحهم المعنوية ، و لكن كانوا يكذبون بحذر شديد حتى لا ينقلب الخطاب من رفع حماس الجنود إلى تضليلهم.
في الحرب العالمية الثانية كانت قيادات الجيوش تحرص على إمداد الجند ، أفرادا أو جماعات ، بأجهزة ترانزستور ، ليستمعوا إلى ما تحقق من انتصارات في مواقع القتال المختلفة. لكن الإعلاميين العسكريين العرب فهموا خطأ أن المطلوب هو اختلاق انتصارات وهمية ، بل قلب الهزائم إلى انتصارات و لو أدى ذلك إلى تضليل الجنود و إيقاعهم في كمائن ، و هكذا كان “أحمد سعيد ” المذيع المصري الذي كان يعتبر “أيقونة” الإعلام الحربي خلال حرب 67 يؤلف انتصارات من خياله و كان العسكر و حتى الضباط يصدقونه بينما كان عبدالناصر يبتهج بأسلوبه ظنا منه أن هذا هو الإعلام الحربي النموذجي
.. لقد كان إعلام الحرب سببا من أسباب هزيمة الجيش المصري سنة 67. كما كان وزير إعلام صدام حسين ، الصحاف ضحية لنفس الفهم الفاسد لإعلام الحرب ، إلى حد أن البعض روج تهمة عمالته للأمريكان.
إعلامنا العسكري يحمل ذات المفهوم الفاسد لإعلام الحرب ، حتى في نسخته القديمة التي تجيز بعض الكذب ولكن ليس قلب الحقائق.
الإعلام العسكري الحديث ، رغم استثماره أحدث منجزات علم النفس الاجتماعي ، يتحاشى الكذب تماما و يعتمد التوثيق الحي لوقائع الحرب ، مستصحبا حساسية الجماهير العالية تجاه الكذب.