تابعت ، ضمن كثيرين ، الحملة الشعواء التي يشنها بلابسة المؤتمر الوطني من “لايفاتية” الكيزان على عدد من رموز التصوف ، و التحريض بقصف مساجدهم و (مسايدهم) ، على خلفية استقبالهم وفودا من الدعم السريع و إكرامهم إياهم.
كانت الحملة قد بدأت قبل شهر أو يزيد ، ب(شيخ الأمين) ذلك الذي ظل مثيرا للجدل حتى في أوساط المتصوفة أنفسهم ( و للحقيقة كنت أستهجن هذا الرجل و لا أطيق سماعه أو الحديث عنه منذ عرفته أيام البشير ، خصوصا لعلاقة الصداقة التي جمعته بذلك المتهتك الجهول العميل طه عثمان ، ربيب البشير ، و كفي المرء خبثا و انحطاطا أن يكون ربيبا للبشير ، و كان مما استهجنته في “شيخ الأمين” أيامذاك تودده و تملقه للبشير ، حتى ضمه البشير إلى شرذمة موفديه الرئاسيين و منحه وزنا دبلوماسيا لا يستحقه، فضلا عن تواضع الفقه الديني الذي بدا منه خلال لقاء متلفز) ، غير أن سابق رأيي في الرجل لا يمنعني من الدفاع عنه إن رأيته هدفا لعدوان لا يستحقه، كما لا يمنعني من الإشادة به إن شهدت له موقفا نبيلا، و قد أكبرت للرجل تجرده و استبساله في إطعام الجوعى و جهاده في سبيل مساعدة المرضى و توفير الدواء لهم، باستنفار الناس كما بماله الخاص أو بعطاء الخيرين الذين يجودون بمالهم، في ظروف الحرب و الضيق هذه التي لم تشهد البلاد مثلها من قبل.. يخدم الرجل الناس بنفسه، في “مسيده” الذي يقع في بؤرة من بؤر الاشتباكات، معرضا نفسه لأخطار كان في غنى عنها لو أراد، فأثبت الرجل أنه كبير النفس كريمها، و صديق للناس”وقت الضيق” و قد جوزي عمله هذا الذي يقوم فيه بمسؤولية (دولة) ، ببضع”دانات” استهدفت مسيده، في ما يبدو و كأنه استجابة لتحريض البلابسة!!..
شملت الحملة من المتصوفة أيضا الشيخ الياقوت ، و خلفاء الشيخ “ود بدر” بأم ضبان (و هذا اسمها الحقيقي الذي قام النميري بتحريفه) و خلفاء الشيخ “أبو قرون” ، و بعض متصوفة العيلفون ، و التهمة التي تأسست عليها الحملة واحدة: استقبالهم ، و إطعامهم ، وفودا من عسكر الدعم السريع !!..
قادة هذه الحملة يجهلون في ما يبدو ، منهج المتصوفة و أدبهم المتوارث في التعامل مع الناس ، أي ناس ، مسلمين كانوا أو حتى كفارا ، و أدبهم أيضا في استقبال الأضياف أيا كانوا ، فكل من بدأهم بالسلام يستحق عندهم الإكرام ، و هذا فرع من منهجهم في الدعوة الذي يقوم ابتداء على”الرفق” و السماحة و القدوة ، و الذي يتقدم بسنين ضوئية على منهج السلفيين و الكيزان.
و لكي أوضح الفرق بين منهجي الطائفتين في الدعوة إلى الله ، أورد هنا واقعتين شهدت إحداهما ، صبيا ، رأي العين ، و سمعت عن الثانية من رجال أثق في صدقهم.
الأولى شهدتها كما أسلفت صبيا ، بحي “بري” شرق الخرطوم ، إذ كان يمر بالقرب من ملعبنا ، بداية عصر كل يوم ، رجل متين البنيان ، سريع الخطوة ، ذهابا إلى حانة شعبية (إنداية) تقع غرب الحي، (و كانت الحانات “البارات” أيامها منتشرة في الخرطوم ، مثلها مثل الكناتين ، و ذلك قبل شريعة النميري “المدغمسة و المفتقرة إلى الصدق و الحكمة”.).
يذهب الرجل كل يوم أول العصر ، و يعود مارا بنا آخر العصر سكرانا “طينة ” ، يسير متعثرا ، “يقع و يقوم ” يشتم أناسا لا نعرفهم بألفاظ مقذعة ، يضحك بصوت عال أحيانا ، و أخرى يبكي بصوت عال أيضا.. هذا كان شأنه كل يوم. و في أحد تلك الأيام صادفه شيخ ملتح يعرفه أهل الحي كأحد مشايخ السلفية المتزمتين ، كان يسير في الاتجاه المعاكس لمسار السكران العائد لتوه من الحانة ، صادحا بأغنية بذيئة، فصاح فيه الشيخ لاعنا ، و أوسعه شتما و سبابا ، و بشره بنار جهنم خالدا فيها ، و وصفه بالكافر النجس ، و كاد يصفعه لولا أنه انتبه إلى الفرق الساحق بين بنيته الهزيلة ، و بنية السكران المتينة ، و كان السكران يبادله الشتائم و ينظر إليه بتحد و احتقار ، حتى”فتر ” لسان الشيخ فمضى في طريقه ثائرا ، مستعيذا بالله من الشيطان، تاركا السكران على حاله. و قد بقي ذلك السكير على حاله و عادته تلك، حتى توفي ذات ليل تحت عجلات شاحنة كان يقودها سكير مثله.
الواقعة الأخرى رواها لي ، لاحقا، بعض أبناء الحي ذاته ، حيث لقي أحد مشايخ المتصوفة (أظنهم ذكروا أحد خلفاء الشيخ يوسف الهندي، لست موقنا، فالرواية مضي عليها أربعون عاما أو أكثر) لقي سكرانا بذات هيئة الأول، ضاحكا و باكيا ، شاتما و مهددا ، فاقترب الشيخ و أمسك بيده قائلا: تعال يا ولدي.. أرحكا معاي ، عندي ليك هدية سمحة..
فانقاد له السكران ، فأخذه إلى المسيد (المسجد) ، فأجلسه ثم أمر الحواريين أن يأتوه بطعام ، فجيء له بطعام طيب فأتى عليه ، ثم أمره الشيخ أن ينام في مكانه فنام ، و كان وقت المغرب قد حان ، فقام و صلى بالناس ، و السكران نائم خلف المصلين ، ظل نائما حتى صباح اليوم التالي ، و كان الشيخ بعد أن صلى بالناس الفجر ، و تفرق المصلون ، جلس بناحية من المسجد قريبا من السكران النائم ، يؤدي أورادا اعتادها ، حتى رأى النائم يستيقظ و ينظر حوله مذهولا ، يجول ببصره في أنحاء المسجد متسائلا ، في نفسه ، عما جاء به إلى هذا المكان!!..
قام الشيخ و جلس بجانبه قائلا: قم يا ولدي فاغتسل ، ذاك هو الحمام ، ثم أعطاه عود أراك. فلما عاد كان بعض الحواريين قد جاء بالشاي و (الزلابية) ، فانتظر الشيخ حتى تناول الرجل الشاي و انصرف الحواريون ، فجلس بجانبه و أمسك بيده و جعل يلاطفه بالحديث كمن يلاطف طفلا ، حتى اطمأن فراح الشيخ يعظه برفق و يذكره بحاله و هو سكران و يؤانسه ببعض طرائف المتصوفة.
قال لي من حكوا هذه الواقعة:
– تعرف “عمنا فلان” مؤذن المسجد ؟
فأجبت بنعم ، فقد كان المؤذن جارا لنا في الحي ، و كان من ألطف من عرفت تعاملا و أكثرهم ورعا و أعفهم لسانا و أطيبهم قلبا و أكرمهم خلقا و أزهدهم في عرض الدنيا الزائل..
قالوا لي: عمنا فلان هذا، كان هو ذلك السكران الذي أخذه الشيخ إلى مسجده!!!!!…
و عودا إلى أمر الحملة على المتصوفة. ماذا كان البلابسة هؤلاء ينتظرون منهم ؟ أن يلقوا ضيوفهم شاهرين السلاح ؟؟! “ليس في خلاوى هؤلاء المشايخ سلاح ، ما عدا عصا الشيخ التي يتوكأ عليها”!!.
أم كانوا ينتظرون من هؤلاء الشيوخ أن يقوموا بطرد ضيوفهم المسلحين الذين جاؤوهم ملقين السلام الذي هو تحية الإسلام ؟.. و تحية الإسلام تعني ، عند المتصوفة خصوصا ، معاني لا يدركها معظم السلفيين ، هي المعاني التي عناها الرسول الكريم صلوات الله و سلامه عليه، حين أمر بإفشاء السلام. فمن يلقي عليك السلام ، إن كان قويا و مسلحا ، هو شخص يعطيك أمانه و يؤمنك من غدره ، لهذا كان رد السلام فرضا. و إن كان من يلقي عليك السلام ضعيفا ، فهو في حكم المستجير بك ، الطالب أمانك ، و ليس من خلق المسلم رد المستجير و لو كان مشركا ، حتى يسمعه كلام الله ثم يبلغه مأمنه..
هل كان من الحكمة أن يطرد هؤلاء المشايخ وفود قوات الدعم السريع ؟ و ماذا كان يمكن أن يترتب على مثل هذا التصرف ؟!.
أخطر ما يستنكره المتصوفة ، بل كل مسلم صادق يعي معنى إسلامه ، هو سفك الدماء و أعظم ما يحاذرونه قتل امرئ مسالم أو التسبب في قتله. هكذا يفهمون الإسلام المشتق لفظه من السلام (و نقيضهم تماما بعض السلفيين و الكيزان الذين لا يعني لهم الإسلام إلا سفك الدماء ، و أصبح شعارا لهم تلك الجملة الشيطانية (فلترق منا الدماء ، أو ترق منهم دماء ، أو ترق كل الدماء)!!..
شعار المتصوفة كتاب الله:(و جادلهم بالتي هي أحسن) (و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) (و إن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) .. الرفق.. الرفق الذي هو ذروة سنام الدعوة إلى الله، هو ديدن المتصوفة الحقيقيين ، و موقف المتصوفة الحقيقيين ، جميعهم ، من الحرب ، هو الرفض القاطع لها و حقن دماء المسلمين الذين يموتون من الجانبين ، و المتصوفة ليسوا دعاة تكفير ، و هم يعلمون أن التكفير هو سلوك سياسي و ليس دينيا ، و لهذا هم لا يحفلون بالسياسة ، و لا يحبون الخوض فيها ، و لا يهتمون برأي السياسيين فيهم.
السابق