جيشنا.. و خيبات الأمل (3 – 4)

علي يس: الراقصون على"جماجم الشهداء"!!.-:

جيشنا.. و خيبات الأمل (3 – 4

الراقصون على”جماجم الشهداء”!!.-

كان الجيش السوداني على موعد هو الأسوأ و الأكثر كارثية في تاريخه ، مع فجر الثلاثين من يونيو 1989. برغم أن بيان الانقلاب الذي ألقاه ضابط مغمور بالجيش – سمع معظم الناس باسمه للمرة الأولى- كان يبرر الانقلاب بالإهمال الذي عاناه الجيش في ظل الحكومة الديمقراطية المنقلب عليها.
ربما استبشر كثيرون ، داخل الجيش و خارجه ، بذلك الخطاب ، ظانين أن الأمر فعلا أمر اهتمام بالجيش و سعيا إلى إنصافه و تأهيله بشريا و لوجستيا ، ليواصل حربه ضد التمرد الجنوبي التي كان قد مضى على نشوبها خمسة و ثلاثون عاما ، بسبب فشل الساسة الذريع في مخاطبة جذور مسبباتها.

حملة توطين”اللحى”!! :-

و بعد مضي أشهر قلائل ، دعا (المتأسلمون) كبار جنرالات الجيش – الذين نجوا من الإحالة إلى (الصالح العام) دعوهم إلى اجتماع عاجل و بالغ الأهمية.. ظن الجنرالات أن الاجتماع سيتناول ، بلا شك لديهم ، قضايا تأهيل و تسليح و تدريب الجيش ، و لكنهم فوجئوا بأن أجندة الاجتماع تمثلت في مناقشة اقتراح تقدم به أحد المتأسلمين ، فحواه مسألة (إطلاق اللحية) بين ضباط و جنود الجيش ، هل نفرضها فرضا على منسوبي الجيش جميعًا ؟ أم نتركها خيارا يختاره من شاء من الضباط و الجنود ؟!..
كان المتأسلمون قبلها قد زرعوا الخوف بين ضباط الجيش غير المتأسلمين ، بما فعلوه ببعض زملائهم ، بدءا بالإحالة إلى التقاعد و انتهاء (ببيوت الأشباح) ، و لكن برغم ذلك لم يحتمل بعض الجنرالات تفاهة أجندة الاجتماع العسكري المصيري ، فلم يستطيعوا كبت سخرياتهم من الأمر كله!! كان هؤلاء يعرفون أنهم سوف يحالون إلى التقاعد بمجرد انتهاء الاجتماع ، و قد حدث!!!..

ألراقصون على”جماجم الشهداء!! :-

تبين سريعا ، بعد انقلاب يونيو أن المتأسلمين لم يكونوا يعولون أصلا على الجيش ، بقدر ما كانوا يحاولون اختطافه بالكامل ، من ناحية ، و من ناحية أخرى يستخدمون منسوبيهم في الجيش في تدريب مليشيات مدنية يجعلونها رأس الرمح في مواجهة الحركة الشعبية لتحرير السودان التي يقودها جون قرنق.. أسموا تلك المليشيات: (قوات الدفاع الشعبي) و كانت في البدء تتألف من منسوبيهم ، بيد أنهم سرعان ما فتحوها لتشمل كل راغب ، ثم جعلوها أمرا إلزاميا لبعض فئات المجتمع ، مثل قيادات الخدمة المدنية ، ثم طلاب الجامعات ، ثم أسموها (الخدمة الإلزامية) فاستهدفوا بها خريجي الثانويات و جعلوها شرطا لدخول الجامعة أو الحصول عمل بالقطاع العام أو السفر خارج البلاد. أما الذين لا يبحثون عن الميزات الثلاث أعلاه ، أو الذين لم يغشوا المدارس أصلا من الصبيان و الشباب، فقد ابتكرت لأجلهم (كشات الخدمة الإلزامية) حيث كان الفتيان، بل الصبية، في طرقات المدينة يفاجؤون بشاحنات عسكرية تقف أمامهم فجأة ثم ينزل منها جنود شداد غلاظ فيقذفونهم قذفا داخل تلك الشاحنات.. و كم من أسرة أيامذاك ظلت تنتظر ابنها الذي خرج صباحا في مشوار قصير ، ثم لم يعد ، شهورا و ربما سنين، لتفاجأ بعد زمن يطول أو يقصر ، بسيارات عسكرية تحمل إليها مواد تموينية و ضباطا ملتحين يهنؤون ربة الأسرة و يطلبون منها “زغرودة” احتفاء باستشهاد ابنها البطل ، الذي جاءوا خصيصا لإحياء عرسه (عرس الشهيد).. كانت بدعة خرقاء حقا ، تنافي الفطرة و الذوق ، لم يعرفها الإسلام طوال تاريخه!!..
و لكن تظل ذروة الكوميديا السوداء في تلك الحقبة (مذبحة معسكر العيلفون) التي راح ضحيتها أكثر من مائة شاب و صبي “تتراوح أعمارهم بين السابعة عشرة و بين العشرين.
و معسكر العيلفون أحد معسكرات الخدمة الإلزامية التي كان يتم فيها تدريب الطلاب و الشباب الذين كانوا يقتنصونهم من الطرقات ويأخذونهم إلى تلك المعسكرات ، دون أن تعرف أسرهم التي قد تظل تبحث عن ابنها الذي أرسلته إلى”الدكان ” أو السوق أو خرج لقضاء غرض ما ، ثم لم يعد، سنين عددا..!!.
كان اليوم الحزين هو يوم”وقفة عرفات ” و الشباب المحبوسون داخل المعسكر ، والذين فارقوا أسرهم قسرا لبضعة أشهر ، للمرة الأولى في حياتهم ، ينتظرون وعدا بذل لهم بأن يشهدوا عيد الأضحى مع آبائهم و أمهاتهم.. ليفاجؤوا بأن قائد المعسكر قد نقض وعده.. تجمع الشباب الغاضبون عند شاطئ النيل ، الذي يمثل الحد الغربي لأرض المعسكر ، منتظرين قوارب تأخذهم إلى الشاطئ الغربي ، بعضهم حدث نفسه بعبور النيل سباحة ، ليفاجؤوا بصوت عسكري آمر أن يعودوا إلى ثكناتهم و إلا..
تردد الطلاب في إنفاذ الأمر ، فجاءهم جواب (و إلا..) سريعا ، زخات من الذخيرة الحية ، في الرؤوس و الصدور.. ارتعب الذين أخطأهم الرصاص منهم، فألقوا بأنفسهم في النيل محاولين الهرب سباحة ، فلحقهم الرصاص و هم بين الأمواج.. أكثر من مائة شاب لا تعرف أسرهم حتى اللحظة أين ذهبوا بهم أو أين دفنوا ؟!!. ليتم اكتشاف مقبرة جماعية تضم رفات بعضهم بعد اثنين و عشرين عاما.. أما العيد ، فقد كان غصة في حلوق مئات الأسر السودانية ، ثم لم يترك متأسلمو الجيش – الذين أصبحوا هم وحدهم الجيش بعد ذلك – لم يتركوا عادة تنغيص الأعياد على الناس بعد ذلك ، حتى ظن الناس أن مذبحة القيادة العامة هي آخر عيد دموي سيشهدونه ، و لكنهم فوجئوا بحرب الخامس عشر من أبريل ، و هم يتأهبون لاستقبال عيد الفطر.. فعرفوا من الذي أشعل هذه الحرب!!!..

أين ذهبوا”باسم” الشعب؟! :-

في مقالة سابقة أشرت إلى عدم موضوعية إضافة عمر “قوة دفاع السودان” التي أسسها المستعمر و قادها و استقل بولائها و وجه عقيدتها العسكرية ، إلى عمر الجيش السوداني ، و افترضت أن يحسب عمر الجيش السوداني و تاريخه منذ لحظة الاستقلال ، مع خضوع هذه الفرضية نفسها للنقاش ، إذ إن انقلابا آخر حادا في القيادة و في التوجه و في الولاء و في العقيدة القتالية طرأ على الجيش السوداني منذ الثلاثين من يونيو 1989 ، إذ تم أولاً إحالة قيادة الجيش و كبار ضباطه إلى التقاعد ، إضافة إلى جميع الضباط الذين لا ينتمون إلى الحركة المتأسلمة ، باستثناء عدد قليل ممن تحولوا بولائهم إلى الإسلاميين ، أو من قدموا بعض الخدمات المؤثرة ، مثل قائد الجيش الحالي الذي كان”بعثي” الهوى، كما أكد بنفسه مرارا، و الذي قدم خدمة جليلة لنظام البشير حين كشف مخطط انقلاب الضباط البعثيين عام 1990، الذي كان شريكا فيه ، قبل أن تحدثه نفسه بإفشاء سر الانقلاب قبل ساعة الصفر ، ليتم بعدها إعدام ثمانية و عشرين من زملائه الضباط و ينجو هو بنفسه.
و لكن لم يتوقف التغيير الراديكالي في الجيش بتغيير القيادة بل شمل ولاء الجيش نفسه ، إذ لم يسمح بعدها باستيعاب طلاب لا ينتمون إلى الحركة المتأسلمة طوال الثلاثين عاما التالية ، كما تعين على خريجي الكلية الحربية تقديم الولاء “للحركة الإسلامية” على أي ولاء آخر.
بل إن تغييرا للإسم الرسمي للجيش:(قوات الشعب المسلحة) الذي كان سائدا حتى 1989 و اختصاره “ق.ش.م” حدث دون أن ينتبه أحد ، ليصبح بعد 89 :(القوات المسلحة) و بالقطع لم تسقط كلمة”الشعب ” من اسم الجيش بمحض الصدفة ، بل كان أمرا مقصودا له مغزى خطير..

يتبع: (حين ولدت الأمة ربتها!!).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.