عمار نجم الدين يكتب: أنا و أخوي على ابن عمي”: كيف تهاوت دعاوى الديمقراطية في صراع مثقفي دولة الأبرتهايد

 

إذا أردنا مقاربة المشهد الراهن مقاربةً تستندُ إلى تحليلاتٍ بنيويةٍ تاريخية، وجب علينا الانطلاقُ من السؤال المركزي: كيف يمكنُ لنخبةٍ كانت تُعلنُ انحيازها للهامش ( منهج التحليل الثقاف مخ ي ) ، او ترفعُ لافتاتٍ ضد المركز البرجوازيّ ( المنهج الماركسي ) ، أن تصطفَّ فجأةً مع السلطةِ المركزية حين تقعُ البلادُ على حافة الانهيار؟ إن هذه التناقضات لا يمكن فهمها دون النظر إلى البُنى المُتجذِّرة في الوعي الجمعي لتلك النخبة، واستحضار تاريخ علاقة المركز بالأطراف في سياقها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
إن أيَّ قراءةٍ للمشهد تقتضي التحليل البنيوي الذي يركز على أنَّ خطاب النخبة المركزية يقومُ على منظومةٍ من العناصر المتداخلة؛ أبرزها:
التكوين الطبقي: حيث تتشكّلُ النخبة من طبقةٍ برجوازيةٍ مثقفةٍ ربطت مصالحها الرمزية والمادية بمؤسسات الدولة المركزية.
هذه النخبةُ رفعت شعارات الهامش والديمقراطية ومناهضة عسكرة الدولة، طالما ظلَّت مؤسسات المركز تحمي إطارًا رمزيًا يُتيح لها الصراع في داخله.
ما إن بدا أنَّ الدولة قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، حتى انتقل الخطاب من نقد المركز إلى التمسّح به، خوفًا من ضياع الهيكل الذي كانوا يتصارعون تحت سقفه.
ولعلَّ هذه البنية التفاعلية تُذكِّرنا بمقولةٍ مشهورة عن أنَّ الأفراد قد يُعلنون مواقف ثورية، لكنّهم، في لحظة الخطر، يرجعون إلى “بيت الطاعة” الذي يُمثِّل لهم الأمان الطبقيَّ والثقافيَّ، ولو كان مُناقِضًا تمامًا لشعاراتهم النظرية.
لقد أعلنت هذه النخبةُ التعاطفَ و اتضح انه ( تعاطف و لم يكونوا جزء أصيلاً من الصراع مع قضايا الهامش ) ودعت إلى تحريره، لكنَّ الخطاب كان في كثيرٍ من الأحيان ينطوي على نوعٍ من المغالطة المنطقية: مغالطة “الشخصنة”، حين تصوِّرُ من يخالفها الرأي على أنَّه دخيلٌ لا يفقهُ قضايا التهميش، أو متواطئٌ مع السلطة القمعية. وعندما اندلعت الحرب، تضخَّمت هذه الشخصنةُ لتصبح ادِّعاءً بأنَّ كلَّ من لا ينحازُ للجيش المركزيّ هو عميلٌ للخارج، وهي مغالطة رجل القش، إذ ينسبون إلى الخصم موقفًا مشوَّهًا ويسهلُ دحضُه.
لا يخفى أنَّ هناك تناقضًا صارخًا بين التشديد على الحريات والديمقراطية، من جهة، والانحياز إلى المؤسسة العسكرية، من جهةٍ أخرى. فذات النخبة التي ندَّدت بأقسى الديكتاتوريات في التاريخ المحلي والإقليمي، عادت لتتستّر على ممارسات الجيش العنصريّ نفسه الذي طالما اتهمته بأنَّه “وريث أعتى السلطات القمعية في المنطقة”. هنا تلوحُ مغالطة الاحتكام إلى الخوف: إمّا أن ننضمَّ للجيش أو نغرقَ جميعًا في فوضى عارمة، وكأن لا طريق ثالث ولا خيارات بديلة.
قبل اندلاع الصراع، كانوا يتبنَّون خطابًا بان-أفريقيًا متحررًا من قيود الحدود، لكنَّهم فجأةً حوّلوا المسألة إلى حربٍ بين “المركز القومي” و”غريبٍ وافدٍ” “عرب شتات” من خلف الحدود، وكأنَّهم يستدعون مغالطة الرنجة الحمراء (إشغال الجماهير بقضيةٍ جانبية وإهمالِ جوهر المعضلة). إنَّ التعكُّز على خرافة “الغزو الخارجي” ليس إلّا توزيعًا جديدًا لأوراق اللعبة، يستهدفُ تضليل الرأي العام وحشد العواطف في اتجاهٍ محدد وهذا ما ظل يستعمله على الدوام ضد الآخرين الذين يتنازعونه السلطة باعتبرها ما هي إلا
( قميص البسنيه الله )
إنَّ هذه التناقضات ليست وليدة لحظةٍ عابرة، بل هي نتاجٌ تاريخيّ لصراعٍ داخل المركز ذاته، إذ ظلّت النخبةُ المركزية تتنافسُ فيما بينها على السلطة، لكنّها تفعلُ ذلك تحت سقفٍ مشتركٍ يوفِّرُ الحماية للجميع. هذا السقف قد يكون مؤسَّسة الدولة، أو الأطر الفكرية الكبرى، أو المشروعية الثقافية التي تُكسبهم مكانةً اجتماعيةً تميِّزهم عن الفئات المسحوقة والهامشية. فلو انهار هذا السقف، لوجدوا أنفسهم في مواجهةٍ مع واقعٍ جديد: واقع يتساوون فيه مع من كانوا ينظرون إليهم بعين الترفّع أو الإشفاق، إمّا باعتبارهم “قاعدةً للعمل الثوري” في منظور النظريات الماركسية، أو جماعاتٍ لها خصوصياتٍ أثنيةٍ وجغرافيةٍ لا يعترف بها المركز إلّا نظريًا.

رابعًا: بُنية المركز وآليات حمايته من التفكك
1. الحفاظُ على هيكل الدولة: يزعم أرباب النخبة أنَّ دعمهم للجيش ليس إلّا حمايةً للدولة من التفكك. وهنا يبرز تناقض جوهري: كيف لمن كان يعتبرُ المركز أداةَ قمعٍ للهامش أنْ يتجاهل ممارسات الجيش العنصريّ الآن بدعوى “تغليب المصلحة الكبرى”؟
2. الاصطفاف الزائف: إنَّ النداءات التي ترفع شعار “نحن أو الفوضى” تُخفي نزعةً براغماتيةً تضعُ مصلحة المركز فوق أي اعتباراتٍ أخلاقيةٍ أو مبادئ شعاراتية. ويُمكن قراءتها ضمن مغالطة الابتزاز العاطفي التي تُستخدَم لحشد التأييد.

واقع الأمر يبيِّن أنَّ ذلك الصراع لم يكن صراعًا بنيويًا حقيقيًا، بل مجرَّد تنافسٍ فوقيّ بين أقطاب النخبة المركزية، أي ما يُشبه صراع الإخوة على إرثٍ أسريّ. فهم يتخاصمون حين يشعرون بالاستقرار، لكنَّهم في لحظة الخطر يوحِّدون صفوفهم تحت شعار “أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب”. هذا الشعار العربيّ التاريخي يحوم في خلفية المشهد بوصفه مبدأً تعبويًا يسمحُ بتهميش أيّ طرفٍ خارجيّ، حتى ولو كان من أبناء الوطن، لكنَّه لا ينتمي إلى مظلَّة المركز برجوازيًا كان أم ثقافيًا.
تُظهرُ لنا المقاربة التفكيكية للتاريخية البنيوية أنَّ المركز ظلَّ هو الحاضن الرمزي لجميع اللاعبين، وإن تفاوتت مواقعهم بين الرفض الظاهريّ والتأييد الباطنيّ. وعندما وصلت الدولة إلى شفا الهاوية، ظهر الارتباطُ البنيوي العميقُ بين النخبة والمركز: إن انهار المركز، انهارت معه كلُّ صراعاتهم النظرية، لأنهم ببساطةٍ لن يجدوا جدرانًا يتقاتلون خلفها ولا سقفًا يظللهم. وبذلك يتبدّى المشهدُ وكأنّه محضُ تنافسٍ رمزيّ على سلطةٍ واحدة، تتعالى الشعاراتُ حين يكون “البيت” قائمًا، ولكنْ حين تتهدَّدُ أركانه، تتراصُّ الصفوفُ تلقائيًا للحفاظ عليه، ولو على حساب المبادئ المعلنة.
هكذا نجدُ أنَّ من كانوا في مقدمة النضال النظريّ ضد تغوُّل المركز، قد غدوا في طليعة الحريصين على صيانته؛ لأنَّه المرجع الذي يمنحهم رمزية التميُّز ومشروعية التحكُّم، مهما زخرفوا خطاباتهم بلغة الهوامش، والمساواة، والحدود المفتوحة، والديمقراطية. وفي نهاية المطاف، تكشَّفت الأقنعة عن حقيقةٍ مفادها أنَّ غالبية هذه النخبة المركزية ليسوا مستعدّين للتضحية بالسقف نفسه، لأنَّه يوفر لهم الحماية والامتيازات، ويُعطيهم منصَّةً للتصارع النظريّ فيما بينهم، بينما يراقبُ الهامشُ المشهدَ من جديد، مهمَّشًا كما كان، ينتظرُ من يُنصت إلى قضاياه بصدقٍ لا تُمليه مصالحُ المركز ولا براغماتية اللحظة الحرجة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.