عروة الصادق يكتب: حول العقوبات الأمريكية الأخيرة على السودان
حول العقوبات الأمريكية الأخيرة على السودان
بقلم: عروة الصادق
- في ضوء التصريحات الصادرة عن وزارة الخارجية الأميركية بشأن فرض عقوبات على السودان بزعم استخدام أسلحة كيميائية خلال عام 2024م، أؤكد النقاط التالية، انطلاقًا من رؤية تحليلية دقيقة، واستنادًا إلى معطيات وحقائق تاريخية، تعكس واقع الأزمة السودانية وتعقيداتها: – أولاً: هذه العقوبات ليست مفاجئة ولا استثنائية، بل تمثل امتدادًا طبيعياً لمآلات تجربة سياسات خاطئة، وثمرة فترة الحكم الكارثية التي قادها النظام السابق (الإخواني/الإنقاذي)، والتي رسّخت ثقافة الإفلات من العقاب، وحوّلت السودان إلى مسرح لتصفية الحسابات الدولية، وعمّقت الانقسامات الداخلية، ودمّرت مؤسسات الدولة لصالح أجندات أيديولوجية وعسكرية.
– ثانيًا: استخدام الأسلحة المحرّمة دوليًا، إن ثبت، هو ممارسة تعود جذورها إلى سلوكيات النظام المحلول منذ التسعينيات، حين استخدمت السلطة القوة العسكرية كسلاح سياسي لإخضاع الأطراف، دون أي اعتبار للقانون الدولي أو الكرامة الإنسانية، ومنطقة هيبان في جبال النوبة ذات الأمرين، وقد شهدت تقارير متعددة، بما فيها منظمات أممية، توثيقاً لهذه الانتهاكات في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة، دون محاسبة تُذكر.
– ثالثًا: لا يمكن فصل القرار الأميركي عن سياق دولي تحوّلت فيه العقوبات إلى أدوات سياسية تستخدمها القوى الكبرى لإعادة تشكيل التوازنات في الدول الهشة، خاصة في ظل عجز المجتمع الدولي عن إنتاج حلول سياسية حقيقية تنهي الحرب في السودان، فالعقوبات – كما أثبتت التجربة – كثيرًا ما تضر بالمدنيين، ولا تُضعف مراكز القوة المسيطرة على القرار الأمني والعسكري.
– رابعًا: ما يجري الآن هو نتيجة مباشرة لغياب المشروع الوطني البديل الذي يُنهي منطق الحرب ويقطع مع إرث التمكين الإخواني، والذي ما يزال بعض رموزه ينشطون تحت عناوين جديدة، ويعملون على إعادة تدوير العنف، واستغلال الفراغ السياسي والأمني لصالح مشاريع مضادة للدولة المدنية الديمقراطية.
– خامسًا: العقوبات – وإن جاءت- تحت لافتة القانون الدولي، فهي لن تؤتي أُكُلها ما لم تقترن بجهد وطني وضغط داخلي يقود إلى وقف شامل للحرب، وتحقيق تسوية سياسية ترتكز على قيادة مدنية وطنية مستقلة، بعيدًا عن المحاور والتدخلات الخارجية، ومن هنا أؤكد على ضرورة التفريق بين العقوبات كأداة ضغط، وبين اعتبارها حلاً نهائيًا أو بديلاً عن الحل السياسي الشامل.
– سادسًا: الشعب السوداني هو المتضرر الأول من أي عقوبات شاملة، وقد دفع الثمن باهظًا خلال العقود الثلاثة الماضية من فساد النخب، والحصار الدولي، والحروب المتكررة، ومن المهم التأكيد أن القوى المدنية – وليس الأطراف العسكرية المتحاربة – هي الأجدر بقيادة المسار البديل، بشرط التوحد، وامتلاك رؤية واضحة، وإرادة فعلية لكسر الحلقة الجهنمية بين العنف والسلطة.
– سابعًا: تجربة الحكومة الانتقالية كنموذج بديل ناجح من المهم التذكير، في هذا السياق، بأن السودان لم يكن دائمًا في هذا الموقع المعزول. فخلال الفترة الانتقالية (2019م–2021م)، نجحت الحكومة المدنية، برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك، وبدعم من وزير المالية آنذاك د. إبراهيم البدوي، في إعادة السودان إلى المنظومة المالية العالمية، وتحقيق اختراقات غير مسبوقة على صعيد رفع العقوبات الأميركية، والخروج من قائمة الدول الراعية للإرهاب في ديسمبر 2020.
لقد قامت الحكومة الانتقالية بتنفيذ برامج إصلاح اقتصادي واقعي وشجاع، أبرزها: ١. برنامج دعم الأسر السودانية (ثمرات) بدعم من البنك الدولي، والذي خُصّص لتخفيف آثار الإصلاحات الاقتصادية على الفئات الضعيفة.
٢. إصلاحات شاملة في النظام المصرفي والتعاون مع صندوق النقد والبنك الدوليين. ٣. فتح قنوات تمويل مباشر من مؤسسات دولية لأول مرة منذ عقود، بما في ذلك مبادرة إعفاء الديون الخارجية (HIPC). .
٤.إطلاق شراكات تنموية مع الاتحاد الأوروبي، ألمانيا، فرنسا، ودول الخليج. كل ذلك تم في ظرف سياسي هش، ولكن بمصداقية مدنية عالية، وخطاب سياسي متزن، ورؤية استراتيجية جعلت العالم ينظر إلى السودان كدولة ناهضة، لا كخطر أمني.
إن المقارنة بين واقع السودان اليوم، تحت سطوة الحرب وتهديد العقوبات، وبين ما تحقق في ظرف انتقالي قصير، تؤكد أن الطريق للخروج من الأزمة ليس مغلقًا، وأن القوى المدنية قادرة على قيادة مشروع وطني يعيد بناء الثقة داخليًا وخارجيًا، بشرط تماسكها وامتلاكها الإرادة والرؤية.