عمار نجم الدين يكتب.. تحالف الإبادة: الجيش ومسار دارفور في شراكة كيميائية الإبادة الجماعية

تحالف الإبادة: الجيش ومسار دارفور في شراكة كيميائية الإبادة الجماعية

———————————————————

بقلم / عمار نجم الدين

 

في أحد أحياء دارفور، استيقظت أمٌ على صراخ أطفالها وهم يتلوّون من الألم، يحكون عن دخان أصفر لاذع تسلل من النوافذ. لم يكن حلمًا، لم يكن كابوسًا… كان غازًا سامًا. وحين وصلت جثثهم إلى المستشفى، لم يملك الأطباء سوى أن يكتبوا في التقرير: “جهاز تنفسي محترق، جلد متآكل، رئة مدمرة”. لم تكن هذه حالةً استثنائية، بل واحدة من عشرات الهجمات الكيميائية التي نفذها جيش البرهان، ليس ضد أهداف عسكرية، بل ضد نساء حوامل، وأطفال نائمين، وشيوخ تقطعت بهم السبل.

لقد أصبح استخدام الأسلحة الكيميائية في السودان من شدة تكراره، وكأنه جزءٌ من عقيدة العمليات العسكرية لجيش الأبارتهيد . والأسوأ أن من شارك يومًا في فضح هذه الجرائم، عاد الآن ليشارك فيها… نفس اليد التي أمسكت تقرير الاتهام، تمسك اليوم بقاذف الغازات السامة، وتطلقه على نفس القرى التي حملت أسماء الشهداء قبل عشرين عامًا.

في عام 2016، نشرت منظمة العفو الدولية تقريرًا يوثق ثلاثين غارة كيميائية على جبال مرة، باستخدام الخردل واللويزيت، متسببة في مقتل المئات وتشريد الآلاف. الصور التُقطت بالأقمار الصناعية، والتحليل جرى في مختبرات عسكرية أوروبية، والنتيجة لم تقبل الجدل. لكن لا أحد تحرك. ثم جاءت 2025، وخرجت الولايات المتحدة أخيرًا عن صمتها. صحيفة نيويورك تايمز نشرت تفاصيل تؤكد أن الجيش السوداني استخدم غاز الكلور في قصف منازل المدنيين في النيل الأبيض وأحياء الخرطوم و دارفور . التقارير استندت إلى شهادات، وفيديوهات، وتحليل عينات تربة ملوثة. لكن هذه المرة يبدو ان الكثيرين سوف يتحركون .

وفقًا لنظام روما الأساسي، استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين يُعد جريمة حرب. وإذا كان الاستهداف يتم على أساس عرقي أو جهوي، فإن الجريمة ترتقي إلى مستوى الإبادة الجماعية. السودان صادق على اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية منذ عام 1999، وتعهد بتدمير مخزونه. لكن ما حدث هو العكس: التكديس، والاختبار، ثم التعليمات من قادة جيش بورسودان و الإطلاق. ما هو وصف أدق من ذلك لجريمة مكتملة الأركان؟

غير أن ما يثير الرعب حقًا، ليس فقط وحشية الجريمة، بل شركاء الجريمة. من كان بالأمس ضحية، صار اليوم جلادًا. مني أركو مناوي، جبريل إبراهيم، وحركات مسار دارفور، دخلوا في تحالف سياسي وعسكري مع الجيش الذي قصف قراهم بالأمس. وهم اليوم يوجهون نفس الأسلحة، إلى نفس الفقراء، في نفس المناطق. منازل أُحرقت، نساء اغتُصبن، وقنابل الغاز سقطت، بينما كانت تلك القيادات تُقسم في مقر حكومة بورسودان أن “العدالة” قادمة.

هذا ليس مجرد نفاق سياسي، بل مشاركة فعلية في جرائم يعاقب عليها القانون الدولي. فالمسؤولية المشتركة لا تُسقط بالتحالفات، ولا تُغسل بالمناصب. كل من شارك في إصدار أمر، أو غض الطرف عن مجزرة، يجب أن يُحاكم. لا في محاكم صورية، بل في لاهاي، حيث يُحاكم القتلة لا الخطباء.

لكن العدالة كما يبدو، ليست عمياء… بل عرجاء، تمشي بسرعة مختلفة حسب لون الضحية و اتجاه الجغرافي . حين قُتل مدنيون في أوكرانيا بغاز الكلور، تحرك العالم. أما حين اختنق أطفال السودان بنفس الغاز، سألوا: من الفاعل؟ وهل من دليل قاطع؟ وهل السياق معقد؟. الجريمة ذاتها، ولكن ميزان العدالة مختلف. كفتان… واحدة يُراقبها الإعلام، والأخرى تُطمر تحت تراب أفريقيا.

إن عبد الفتاح البرهان، وقادة جيشه، ومعهم شركاؤهم من حركات دارفور، يجب أن يُساقوا إلى العدالة، لا إلى اتفاقات تقاسم السلطة. ويجب أن تُحاسب الدول التي تسلحهم، وتمولهم، وتستقبل ذهبهم، مقابل صمتها على دماء الأبرياء. لقد فشلنا مرة في منع الإبادة في رواندا، ولا يحق للعالم أن يُكرر هذا العار في السودان.

الدم لا يتبخر. والغاز لا يُنسى. وما احترق بالأمس لا يمكن مسحه بخطاب سياسي. ما يمكن فعله اليوم، هو أن لا يُسمح لهؤلاء المجرمين بكتابة تاريخ السودان. أن تُدوَّن الجرائم، أن تُفتح الملفات، أن يُسمّى القاتل قاتلًا. لأن العدالة الانتقالية الحقيقية لا تبدأ بالصفح… بل تبدأ بالحقيقة.

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.