دكتور الوليد آدم مادبو يكتب .. السودان: المسرح القادم لحرب كونية
السودان: المسرح القادم لحرب كونية
✒️دكتور الوليد آدم مادبو
“ما لا تستطيع الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة فعله بالسبل الشرعية، تحاول أن تنجزه بالفوضى الأمنية”
— من دفاتر الثورة السودانية
ليس صحيحًا أن العالم قد أهمل السودان. بل الأصح أنه راقبه بصبر وتأني. تجاهُل دونالد ترمب العلني للأزمة خلال زيارته الأخيرة للخليج لم يكن إلا واجهة لعمل استخباراتي دؤوب، يسعى لجمع الأدلة ويعمل على تفكيك الشفرة السياسية للمعسكر المتسلّح بالدين، المغطّى بمزاعم السيادة، والممسك بخناق وطنٍ بات جسدًا بلا روح وأمسى مسافرًا بلا زاد.
في مقاله الأخير، كشف الصحفي المخضرم إبراهيم عبدالقادر – مستندًا إلى مصادر رفيعة وميدانية – تفاصيل صادمة حول استخدام الجيش السوداني لأسلحة كيمائية في شمال دارفور والعاصمة الخرطوم، مع أدلة مادية تم جمعها من مسرح العمليات. ولم تكن العقوبات الأميركية الأخيرة إلا رأس جبل الجليد، تمهيدًا لتدخل مباشر بات حتميًا، بعد فشل المجتمع الدولي في إنفاذ تدخل إنساني تقليدي.
هذا الصمت الدولي لم يكن غفلة، بل تحفزًا وتدبيرًا لمسألة تركت منذ أمد بعيد في الاضابير. فالعالم – بقيادة واشنطن – أدرك أن مشروع الحركة الإسلامية السودانية، المتخفّي في “المقاومة الشعبية”، لا يهدد فقط الشعب السوداني، بل يفتح البوابة الخلفية لعودة النفوذ الإيراني، عبر “كتائب البراء” الموالية للعطا والمموّلة إيرانيًا، والمتمركزة في قواعد جبلية محصنة شمال شندي.
لا يمكن إذًا فهم الموقف الدولي بمعزل عن الخارطة الجغرافية الكبرى. فالسودان يبرز كبؤرة إقليمية متفجّرة، ليس فقط على صعيد أزمته الداخلية، بل كحلقة مركزية في مشروع إعادة تشكيل توازنات القوى في المنطقة. لا سيما أنه قد بات يشكّل امتدادًا استراتيجيًا في ثلاث اتجاهات رئيسية:
أولًا، نحو البحر الأحمر، حيث يشكّل السودان قاعدة محتملة للنفوذ الإيراني، وواجهة لتفريغ استراتيجي للوجود الروسي عبر مشاريع موانئ وهمية. هذا الامتداد البحري الخطير يجعل من الساحل السوداني نقطة ارتكاز لأي نفوذ إقليمي غير مرغوب فيه من قبل القوى الغربية والخليجية.
ثانيًا، نحو الساحل الإفريقي، إذ أصبح السودان ممرًا آمنًا للجماعات الجهادية المعولمة، من مالي حتى النيجر. وتغذّي هذه الحركات شبكات قديمة-جديدة زرعتها الحركة الإسلامية في تسعينيات القرن الماضي، وتعيد اليوم توظيفها عبر قنوات غير رسمية ممولة ومحمية من داخل الدولة المختطفة.
ثالثًا، نحو دول الخليج ومصر، حيث يمارس السودان – من خلال أجهزة مخابرات موازية – ضغطًا غير مرئي، باستخدام أدوات مثل تهديد تدفقات اللاجئين، وتهريب السلاح، وترويج المخدرات، وتغذية التطرف. كل ذلك لتأمين مكاسب تفاوضية أو لتقويض توازنات إقليمية قائمة.
التحول من التعاطي مع السودان كـ”ملف إنساني” إلى اعتباره “ملفًا أمنيًا-إرهابيًا” يجعل تدخلاً عسكريًا مباشرًا أو عبر وكلاء أمرًا مرجّحًا. بل إن تكرار سيناريو العراق أو ليبيا – بذرائع كيماوية أو تحالفات إرهابية – لم يعد مستبعدًا. ولذا، فإن ما كان يبدو قبل أشهر أزمة سودانية داخلية، بات يُنظر إليه الآن كأزمة أمن دولي، تحفّز الغرب على التحرّك خارج إطار الأمم المتحدة – وبعيدًا عن الفيتو الروسي والصيني.
وقد لا تحتاج الولايات المتحدة حينها لأكثر من أربع طائرات من طراز أباتشي وتمركز لإحدى البوارج أو اثنين على ساحل البحر الأحمر كي ترتعد الفئران وتهرب متخفية في جحورها. رأينا كيف تمّ إخلاء طاقم السفارة الأمريكية لحظة اندلاع الحرب في 15 أبريل، إذ لم يجرؤ أحد المتقاتلين – بعد أن تلقوا تحذيرًا صارمًا – على إطلاق طلقة واحدة حتى تم الإجلاء لكل الرعايا بسلام. فكيف بكتائب البراء وجحافل الجبناء؟
في الختام، تبدو المنطقة كلها على حافة بركان. والسودان، هذا البلد المنهك والمنكوب، لم يعد ساحة معركة فقط، بل صار مرآة مكسورة لانعكاسات لصراع طويل بين الحداثة السياسية وبقايا الأوهام الدينية. وهنا، يجب على القوى الإقليمية أن تعي أن التعامل مع نظام “الكيزان” ليس مجرد لُعبة سياسية، بل هو استثمار في كارثة مستقبلية، قد تعُم أقطار عديدة وتشمل مناحي بعيدة. فالحركات التي تتقن التمويه باسم الدين والسيادة، لا تبني دولًا، بل تُعيد إنتاج الأسطورة، وتزرع بذور الفوضى في تربة هشّة أصلًا، وتجعل منها ساحة موعودة بالخراب والتشظي الكامل.
May 25, 2025