د. أيمن سمير يكتب: كيزان السودان .. فتيل الحروب والانتقام والفقر «1ـ 3»
كيزان السودان.. فتيل الحروب والانتقام والفقر «1ـ 3»
- الإخوان كانوا وراء تقسيم السودان وإشعال الحروب المتتالية في الجنوب ودارفور وجبال النوبة وكردفان
- «عسكرة الخلافات» هي سلاح الجماعات الإخوانية والتكفيرية ضد باقي مكونات الشعب السوداني
- الإخوان أفشلوا كل محاولات بناء «الدولة الوطنية» التي تقوم على المؤسسات، وتحقق الرفاهية والسلام والازدهار
- عدم نجاح تنفيذ «الاتفاق الإطاري» كان يعني تدمير البنية التحتية للجماعة الإرهابية في السودان
- التنظيم الدولي للإخوان فتح أبواب السودان للجماعات المتطرفة من شتى أنحاء العالم
- «الكيزان» استضافوا أسامة بن لادن وتسببوا في وضع السودان على لائحة الإرهاب من 1993 ولمدة 25 عاماً
قبل وبعد الاستقلال كان هناك «عنوان عريض» للحروب والفوضى والتخريب الذي كان ولا يزال يعانيه شعب السودان، هذا العنوان يبدأ وينتهي عند من يطلقون على أنفسهم «التيارات الإسلامية»، وفي المقدمة منهم جماعة الإخوان المسلمين التي يطلق عليها في السودان «الكيزان»، ولا يحتاج أحد إلى دليل على أن لهؤلاء أجندتهم السياسية الخاصة التي لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالدين أو بالقيم الإسلامية السامية
قدر السودان منذ عام 1949 عندما تأسست الخلايا الأولى لما يسمى بجماعة «الإخوان المسلمين» وحتى اندلاع الحرب الحالية في 15 إبريل 2023 هو تخريب كل محاولة وأي محالة لبناء «دولة وطنية» تقوم على المؤسسات، وتحقق الرفاهية والسلام والازدهار، دولة يكون عنوانها المواطنة، وشعارها القانون، دولة تستفيد من مقدراتها الطبيعية وموقعها الاستراتيجي المرموق، لكن بفعل السياسات الأنانية للتيارات الإسلاموية، عاني السودان كوارث يعرفها الجميع بداية مما يسمى بـ «قوانين سبتمبر» عام 1983، والتي قادت إلى تشظي وتفتيت النسيج السياسي والاجتماعي السوداني، مروراً بالمذابح والمجازر الوحشية، وحرق مئات القرى بأكملها في إقليم دارفور عام 2003، والتي راح ضحيتها أكثر من 300 ألف قتيل، ونزوح نحو 4 ملايين، وحتى اليوم لا يزال جزء كبير من هؤلاء النازحين يعيش في مخيمات في دول الجوار، وصولاً إلى انفصال جنوب السودان عن شماله في نوفمبر عام 2011 بعد حروب طويلة امتدت لعقود، وهي حروب اندلعت فقط بسبب الممارسات «الاستعلائية والإقصائية» التي فرضتها الحركة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي على سكان الجنوب
اليوم تقف نفس العناصر وذات الوجوه وراء إطالة زمن الحرب التي يتعرض فيها السودانيون لمعاناة غير مسبوقة، وما يزيد من معاناة السودانيين في هذه الحرب أكثر من كل الحروب السابقة، أن الحرب الحالية هي «الأولى» منذ الاستقلال التي تقع في قلب العاصمة الخرطوم وتنتقل للأطراف، فجميع الحروب السابقة كانت على الأطراف سواء الغربية «دارفور» أو الجنوبية «جنوب السودان»، وحتى يومنا هذا يرفض رموز الإخوان الذين يتحكمون في مفاصل القرار بالجيش السوداني كل الدعوات من الوسطاء والأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية لوقف الحرب، لأنهم يرون في الحرب فرصة لمواصلة «المشروع الراديكالي الأيدلوجي» الذي بدأ قبل انفصال السودان عن مصر عام 1956، وهذا المشروع كان السبب المباشر في تحول السودان من دولة كان ينظر إليها بأنها «سلة غذاء العرب وإفريقيا» إلى دولة عاجزة عن توفير الخبز لفئات كثيرة من شعبها بعد استضافة هذه التيارات الظلامية والتكفيرية زعيم القاعدة أسامة بن لادن على أرض السودان، وهو ما دفع المجتمع الدولي لوضع السودان سنوات طويلة ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، الأمر الذي ترتب عليه فرض عقوبات شديدة عاناها الشعب السوداني، بينما كان التكفيرين والظلاميين من قادة هذه التيارات يسيطرون على كل مقدرات البلاد، وعندما توصل الجميع لـ «الاتفاق الإطاري» في إبريل 2023 ساد الأمل بالتخلص نهائياً من هذه التيارات التي فشلت في كل تجاربها السابقة على مستوى العالمين العربي والإسلامي، وتعالت الأصوات التي تنادي بـ«دولة مدنية»، و«مؤسسات وطنية» تقف على مسافة واحدة من الجميع، وتنهي حالة التهميش التي فرضتها النخبة الإخوانية على الشعب السوداني، لكن فجأة ظهر الإخوان من جديد ليشعلوا هذه الحرب في جميع أرجاء السودان بنفس الهدف الذي شكلوا به خليتهم الأولى، وهو تنفيذ «مشروع ثيوقراطي دوجمائي» عابر للحدود الوطنية، ويتماهي مع مشروعات تخريبية أطلت على العالم العربي فيما يسمى بـ «الربيع العربي» عام 2011، فكيف كان الإخوان والجبهة الإسلامية القومية «أداة تفكيك وتقسيم» للدولة السودانية طوال ما يقرب من 8 عقود؟ وإلى أي مدى يستطيع الشعب السوداني أن ينفض غبار هذه الجماعات التي كانت السبب في تأخر السودان عن باقي الدول على الرغم من كل ما تتمتع به السودان من خيرات وأراضي وسواحل وأنهار؟
تسليح الخلافات
لم يتعجب أو يستغرب الشعب السوداني من قرار وزارة الخزانة الأمريكية التي فرضت في سبتمبر 2023 عقوبات على جماعة الإخوان وقيادات الحركة الإسلامية بسبب عرقلة هذه المجموعات لكل المحاولات الرامية إلى وقف الحرب، لأن هذه الجماعة هي المسؤولة بشكل مباشر عن اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 إبريل 2015، ومن وقتها وهم يعملون على إفشال كل مبادرات السلام التي كانت تهدف إلى العودة إلى المسارات الدبلوماسية سواء في جدة أو المنامة أو جنيف، ويدرك السودانيون أن الإخوان هم «الطرف الثالث» الذي أشعل الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، لأنهم كانوا يخشون نجاح «الاتفاق الإطاري» بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع من جانب، والقوى المدنية من جانب آخر، لأن الاتفاق الإطاري كان ينص على تفكيك «البنية التحتية العسكرية والمالية» لجماعة الإخوان والجبهة الإسلامية في السودان، فقرار الخزانة الأمريكية كان تأكيد على سعي الإخوان والجبهة القومية الإسلامية إلى «عسكرة» مستقبل البلاد، لأن مناخ الحرب يسمح لهذه المجموعات الظلامية بالانتقام من الجميع، وخير شاهد على ذلك تلك «التصفيات الجسدية خارج القانون» التي ارتكبها الجيش السوداني سواء في ود مدني أو في المدن والمناطق التي استعادها في الخرطوم، فهناك الآلاف الذين جرى قتلهم من دون محاكمة وأمام عائلاتهم بحجة أنهم كانوا داعمين في فترة من الفترات لقوات الدعم السريع
مسميات مختلفة
ومنذ ظهور الحركات الإسلامية بمسمياتها المختلفة «الإخوان، جبهة الميثاق الإسلامية» الجبهة الإسلامية القومية، المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي، والمؤتمر الشعبي «كانت البندقية وتسليح الخلافات هي الوسيلة الوحيدة للبقاء في السلطة والتهرب من المحاسبة، فتاريخ هذه الجماعات يؤكد أنها دائماً تصل للسلطة عبر الوسائل العسكرية، ولم تنجح أبداً في الوصول للسلطة في السودان عبر صناديق الانتخابات؛ بل ويشهد تاريخها أنها كانت تعتاش وتنمو في ظل الانقلابات سواء على الحكومة أو حتى على من وثق فيهم، وتحالف معهم، فهم لا عهد ولا اتفاق معهم، ولذلك انقلبوا على حزب الأمة القومي بعد أن تحالفوا معه عندما شكل الحكومة في الستينات، لكنهم عادوا وساعدوا الانقلاب الذي قام جعفر نميري ضد حزب الأمة، وعلى الرغم من الخلاف الأيدلوجي ورغبتهم في التمكن من مفاصل الدولة استمروا مع جعفر نميري 16 عاماً من 1969 إلى 1985، ودخلوا من خلاله البرلمان السوداني كثالث أكبر فصيل سياسي في البرلمان خلف حزب الأمة والحزب الاتحادي، وعندما سقط نميري عادوا وتحالفوا مع حزب الأمة القومي من جديد بقيادة الصادق المهدي تحت مسمى «الجبهة القومية الإسلامية»، وخلال تحالفهم مع الصادق المهدي تآمروا عليه في السر مرة جديدة، وسهلوا الانقلاب عليه عام 1989 واستبدلوا اسمهم باسم «الجبهة الوطنية للإنقاذ»، وخلال العقود الثلاثة الأخيرة نقض الإخوان كل العهود والاتفاقيات التي وقعوها مع جميع الحركات المسلحة والقوى السياسية من مختلف أقاليم السودان، وهو ما جعل السودان يعيش دائماً على فوهه من اللهيب، وحالة من عدم السلام والاستقرار
قوانين سبتمبر
أدت قوانين سبتمبر 1983 التي أصدرها الرئيس الأسبق جعفر نميري بضغط شدد من حسن الترابي زعيم جبهة الميثاق، ولاحقاً زعيم الجبهة القومية الإسلامية في دخول السودان لمنعطف من الصراعات والخلافات على مدار العقود الأربعة الماضية، بسبب التغييرات الواسعة في القوانين والدستور وصبغها بصبغة أيديولوجية ضيقة بدأت مختلف المكونات السودانية في البحث عن «مظلة سياسية» بعيداً عن المشروع الوطني الجامع، وحدث كل ذلك لأن الترابي وتلاميذه من الإخوان أصروا على فرض هذه القوانين على جميع الأقليات والإثنيات الأخرى، وكان تطبيق «قوانيين سبتمبر» التي قطعت أيادي وأرجل الكثيرين من دون محاكم موثوق فيها بداية لنفور كثير من المكونات السودانية من المظلة الوطنية الجامعة والبحث عن الاستقلال أو الانفصال، وحدث هذا مع جنوب السودان وفي دارفور وجبال النوبة وكردفان وحتى في مناطق كثيرة شرق وشمالي البلاد، وعلى الرغم من تأكيد فقهاء الإسلام أن «قوانين سبتمبر» ليست لها أي علاقة بالإسلام أو الشريعة الإسلامية، فإن الإخوان بقيادة الترابي قاموا بقطع أوصال الكثيرين بتهمة السرقة أو الحرابة، وجلدوا وصلبوا أشخاصاً من دون محاكم موثوق فيها، الأمر الذي كان السبب الأول في انفصال جنوب السودان عام 2011
دولة راعية لأسامة بن لادن
عندما كان أسامة بن لادن هو الإرهابي الأول في العالم والمطلوب دولياً فوجئ الجميع بجماعة الإخوان السودانية تستقبل زعيم الإرهاب في العالم أسامة بن لادن، والذي وصل السودان عام 1991 واستمر هناك حتى عام 1997 عندما توجه من الخرطوم إلى تورا بورا في أفغانستان، وهو ما دفع دول كثيرة في مقدمتها الولايات المتحدة لإدراج السودان في قوائم الدول الراعية للإرهاب عام 1993، واستمر هذا الأمر حتى نهاية حكم ما يسمى «الإنقاذ الإخواني»، وتم رفع اسم السودان من قوائم الإرهاب بعد نحو 25 عاماً، وهو ما حرم السودان طوال ربع قرن كاملة من الحصول على أي استثمارات أو مساعدات تنموية، وتحول السودان الغني بثرواته البشرية والطبيعية إلى دولة تفتقر إلى الخبز والطحين، وكل ذلك لأن التنظيم الدولي للإخوان فتح أبواب السودان للجماعات المتطرفة من شتى أنحاء العالم، والتي تتبنى شعارات إرهابية، ونتيجة لذلك تم عزل السودان عن المجتمع الدولي، وقطعت المؤسسات الدولية وخاصة المؤسسات المالية مثل نادي باريس والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي كل علاقاتهم بالسودان بعد أن شاهد العالم اللقاءات العلنية التي جمعت أسامة بن لادن مع حسن الترابي، والأكثر من ذلك أن السودان تعرض للقصف الجوي عندما قصفت الولايات المتحدة» مصنع الشفاء بصواريخ كروز في 1998، لأن للمصنع علاقة بشبكة بن لادن بعد تورط بن لادن والقاعدة في تفجير سفارتي الولايات المتحدة في دار السلام ونيروبي.