عباس احمد السخي يكتب : تراتيل في محراب مجزرة الشِقيق حيث سِيق الأبرياء إلى المحرقة زُمَرًا
تراتيل في محراب مجزرة الشِقيق
حيث سِيق الأبرياء إلى المحرقة زُمَرًا
في صباح الرابع من أبريل لعام 2025م، ببلدةٍ وادعةٍ منسية تُدعى قرية الشقيق، التابعة لولاية سنار، كان الناس على عادتهم، يبدؤون يومهم بحمد الله، لا يعلمون أن السماء قد أذنت للكارثة أن تحط رحالها، وأن الأرض على موعد مع حفلةٍ أخرى من الجنون المتوحّش باسم “الرب والجهاد”. في ذلك اليوم، سِيق الأبرياء إلى المحرقة زُمَرًا، كأنهم يساقون إلى ذبحٍ مقدّس لا يعرف الرحمة ولا العدل، تكتنفه شعارات زائفة ورايات سود، في مجزرةٍ تجاوزت كل حدود الإثم وتخلّت عن كل ملامح الإنسان.
المجزرة التي ارتكبتها ما تُسمى بـ”الكتائب الجهادية”، تحت حماية ودعم مباشر من جيش نظامي، تمثل صورةً سوداء من الانحدار الأخلاقي، ووصمة عار على جبين الإنسانية. ما يزيد على خمسةٍ وثلاثين إنسانًا أعزل، معظمهم من النساء المسنات والأطفال الرُضّع، قُتلوا بدمٍ بارد، دون محاكمة، دون تهمة حقيقية، ودون رحمة. التهمة الوحيدة: أنهم ينحدرون من مجتمع يُظن أنه يتعاطف مع قوات الدعم السريع. هكذا ببساطة، تم الحكم على الحياة بالإعدام الجماعي، وتم تنفيذ الحكم تحت ظلال البنادق ووسط زغاريد الجهل المقدّس (!)أية شريعةٍ هذه التي تُبيح ذبح الشيخ الوقور أمام عيني حفيده؟ وأية فطرةٍ تلك التي ترى في قتل امرأة طاعنة في السنّ “نصرًا مبينًا”؟ وأية رجولةٍ مزعومة تُزهر في حقلٍ مرويٍّ بدموع الأطفال وخوف الأمهات؟ إن أبناء الشقيق، الذين وُلدوا وعاشوا في ترابها، لم يغادروا قريتهم بحثًا عن ثأر أو مأوى، لم يحملوا بندقيةً في وجه أحد، ولم يعرفوا في حياتهم ما يُسمى بإقليم “حواضن الدعم السريع”. لقد كانوا ببساطة سودانيين – أناسًا بسطاء – يأملون في كسرة خبز ويومٍ بلا خوف. ومع ذلك، تم تصنيفهم، كما يُصنَّف الغنم في سوق الذبح، لا لشيءٍ سوى أن الجريمة باتت تُبرر بالهوية، والقتل صار هويةً جديدة لأولئك الذين باعوا أرواحهم للشر.
إن ما حدث في الشقيق لم يكن مجرد مجزرة؛ بل كان إعلانًا صريحًا عن انهيار كل ما يُمكن أن يُسمى “قيمًا”، كان تلويحًا صارخًا براية التطهير العرقي، وكان انتهاكًا فجًّا للقانون الدولي الإنساني، يرقى إلى جرائم الإبادة الجماعية. لا يمكن للضمير الإنساني أن يتغافل عن جريمة بهذا الحجم، ولا يمكن لأي لغةٍ سياسيةٍ أن تبرر سلب الأرواح بهذه الوحشية. هذه الجريمة لا تُنسى، ولا يجب أن تُنسى، لأنها تقف شاهدًا على عصرٍ تكالبت فيه قوى الشر باسم الدين، وغاب فيه صوت العدل تحت ركام البنادق.
في محراب الشقيق، ارتفعت أرواح الأبرياء كتراتيل موجعة، تشكو ظلم الخلق إلى خالقهم، وتُسجِّل في دفاتر السماء أن الدم السوداني أصبح أرخص من الطين، وأن القاتل يمشي في الأرض مرحًا، كما لو لم يرتكب موبقةً تُلعن في السموات والأرض. لكن العدالة لا تموت، وإن تأخرت. ستظل دماء الشقيق تنبت في ذاكرة الوطن شجرةً من وجع، تُنذر الطغاة بأن “لكل أجلٍ كتاب”.
وإلى أن يُكشف الحساب، ستبقى الشقيق تترنّم بأسماء شهدائها، وتحمل جراحها كأوسمة عز، ترويها للأجيال القادمة ليعرفوا أن الخيانة لا تبني أوطانًا، وأن الكرامة لا تُشترى، وأن الله يمهل ولا يُهمل.