خالد كودي يكتب : ثورة الوعي لا تُخدع بالبروباغندا: فلنهدم أصنام المركز: و من يشوّه صوت المقهورين… يكتب اسمه في لائحة الخيانة!
ثورة الوعي لا تُخدع بالبروباغندا: فلنهدم أصنام المركز:
و من يشوّه صوت المقهورين… يكتب اسمه في لائحة الخيانة!
خالد كودي، بوسطن،
في هذه اللحظة المفصلية التي تعيشها جبال النوبة، ومع اشتداد المواجهة بين مشروع “السودان الجديد” وتحالف “تأسيس” من جهة، والمنظومة المركزية القمعية التي أعادت ترتيب نفسها في بورتسودان من جهة أخرى، نشهد تصاعدًا لافتًا في خطاب التشويه والدعاية الكاذبة عبر أجسام هلامية مصنوعة، وبيانات مشبوهة تعيد إنتاج دعاية الإنقاذ والبروباغندا الكولونيالية بنسخة سودانية مسنودة بالبندقية والتمييز العرقي.
لم تعد هذه البيانات والكيانات تخفى على العيان؛ فهي تصدر بتوقيت متزامن، بلغة موحدة، ومصطلحات مستعارة من تقارير حقوقية كاذبة وملفقة، لكنها تفرغها من مضمونها لصالح مشروع مركزي يسعى لإعادة الهيمنة على شعوب الهامش وتفكيك تحالفاتها الصاعدة.
أولاً: من الكيانات الهلامية إلى أدوات الدولة العميقة:
لم تكن ظاهرة تكوين المليشيات والواجهات المجتمعية–الأمنية وليدة الانقلاب الأخير فقط. فمنذ بدايات عهد النميري، ثم نظام الإنقاذ، اتبعت الدولة المركزية سياسة “فرق تسد” عبر خلق مليشيات محلية (من أبناء الهامش أنفسهم) لمحاربة الحركات المسلحة، كما في حالة مليشيا الدفاع الشعبي، قوات حرس الحدود، لاحقًا قوات الجنجويد، ثم الدعم السريع. هذه الكيانات لم تكن أدوات عسكرية فحسب، بل ترافقت معها دائمًا أجسام إعلامية وسياسية مزيفة، تُستخدم لتشويه المقاومة الثورية، وتأليب المجتمعات المحلية على بعضها البعض.
يقول عالم الاجتماع الكولومبي أورلاندو فالس بوردا:
“تستخدم الدولة السلطوية الهويات الهشة كأدوات لإنتاج وكلاء داخليين للسيطرة… إن تمثيل الضحية من داخلها هو أخطر أنواع الاستعمار”
ثانيًا: جبال النوبة كحالة نموذجية للاستهداف المزدوج:
لطالما شكلت جبال النوبة، بثقلها الديموغرافي ومخزونها الرمزي في نضال السودان، نقطة ارتكاز استراتيجية لأي مشروع تحرري. ولهذا السبب، كانت أيضًا هدفًا دائمًا لسياسات التهجير، التجنيد القسري، وعسكرة الحياة المدنية. واليوم، تتكرر نفس السياسات عبر أجسام جديدة تُمنح صفات “شبكة دولية” أو “تحالف نوبوي”، لكنها لا تمثل سوى أدوات للجيش السوداني وأجهزة بورتسودان الأمنية، تسعى لشيطنة الحركة الشعبية وتحالف “تأسيس”، بذريعة الدفاع عن المدنيين، بينما هي في الحقيقة تحمي امتيازات المركز وتحاول ان تعرقل ولادة السودان الجديد.
ثالثًا: تحالف “تأسيس” كتحول بنيوي لا يمكن تجاهله او النيل منه بنسج الاكاذيب:
في صلب هذا الصراع تكمن وثيقة تأسيس وتحالف “تأسيس”، بوصفهما مشروعًا غير مسبوق في السودان الحديث من حيث:
– وضوحه في قطع العلاقة مع الدولة العسكرية والدينية؛
– طرحه لرؤية علمانية ديمقراطية لامركزية؛
– تعامله مع قضية السلام لا بوصفها توقيعًا أو مصالحة سطحية، بل كمعالجة جذرية لبنية الدولة، تستوجب إعادة توزيع السلطة والثروة والاعتراف بالهوية والثقافة.
الكاتب والمفكر السياسي فرانز فانون يقول:
.”الاستقلال الحقيقي لا يعني رحيل المستعمر فقط، بل تفكيك النظام الذي تركه ليواصل سيطرته بأدوات محلية”
وتحالف “تأسيس” في هذا المعنى يُمثل لحظة انعتاق وقطيعة حقيقية مع النموذج الفاشل لما يُعرف بـ”دولة 1956″، والتي لم تُنتج سوى الحروب، المجاعات، والانقلابات.
رابعًا: الخوف من التغيير وتكتيك “التمثيل الرمزي”:
الخوف من “تأسيس” ليس خوفًا من العنف أو الإقصاء، كما يدّعي خصومه، بل هو خوف من مشروع تحرري يهدد الامتيازات البنيوية التي قامت عليها الدولة السودانية لعقود. لهذا يعمل المركز – سواء في الخرطوم أو بورتسودان – على إنتاج رموز جديدة “من الهامش” لكنها تمثل مصالح المركز، وتُستخدم لتزييف التمثيل وتجميل الاستبداد.
الكاتبة غاياتري سبيفاك تسمي هذا النوع من الخطاب بـ”التمثيل الاستعماري الذاتي”، حيث تُستدعى ضحية سابقة لتدافع عن النظام ذاته الذي قمعها، مقابل وعود جوفاء بمكانة وهمية وهذا ما يجري مع بعض أبناء الهامش للأسف.
خامسًا: إلى أبناء وبنات الهامش: لا مكان للثقة في نظام يعيد إنتاج أدوات القمع:
في ضوء التجربة التاريخية الطويلة للهامش السوداني، وعلى رأسه إقليم جبال النوبة، يتضح أن الثقة السياسية العمياء في المؤسسات المركزية التي ما تزال تُدار بذات العقلية الأمنية والعنصرية، ليست فقط خطأً استراتيجيًا، بل خيانة لدماء الشهداء وذاكرة النضال الجماعي.
فمن منظور الدراسات السياسية النقدية، وتحديدًا ما طرحه سبينوزا في مفهومه حول الطاعة القائمة على الخوف لا على الرضى، فإن أي نظام يُعيد تشكيل أدوات السيطرة القديمة بأقنعة جديدة، لا يمكن الوثوق به كفاعل في مشروع سلام حقيقي.
إن النظام القائم اليوم، سواء في بورتسودان أو في بقايا المؤسسات الخرطومية، ما هو إلا امتداد عضوي لنظام الإقصاء والاستغلال القديم، الذي يستبدل أدواته، لا أهدافه.
ومن الناحية السوسيولوجية، يشير بيير بورديو إلى أن الهيمنة ليست دائمًا مباشرة، بل تُمارس عبر إنتاج “رأسمال رمزي” يُقنع المُهمّشين بتمثيل زائف. وهذا ما نراه اليوم من خلال الأجسام المدنية المصنوعة على عجل، التي تحمل أسماء “النوبة” أو “الشرق” أو “دارفور”، لكنها في جوهرها تعمل على تشويه المشروع التحرري، وتبرئة النظام القديم من جرائمه، بل ومهاجمة من يقاومه.
إن ما يجري اليوم في جبال النوبة، من تضليل سياسي ممنهج، وتصريحات من أجسام مدجنة تدين من يحملون السلاح دفاعًا عن أهلهم، وتبرر لمن يستمر في قصف القرى وتشريد السكان، يُمثل لحظة كشف تاريخي لا بد من تسميتها بوضوح:
إننا نواجه محاولات إعادة ترتيب للخرائط السياسية، يكون فيها المهمشون مجرد أدوات في صراع لا يملكون فيه لا الصوت ولا القرار.
الاصطفاف اليوم، إذًا، ليس خيارًا بين “سلام” و”حرب”، كما تحاول بعض الجهات تصويره، بل هو خيار وجودي بين:
– مشروع تسوية فوقية تُدار من غرف المخابرات، وتُفرض على شعوب الهامش عبر وكلاء ناعمين وأجسام تمثيلية زائفة؛
– ومشروع تحرري جذري، مثل تحالف “تأسيس”، يطرح مقاربة شاملة تعالج جذور الحرب لا أعراضها، وتبني السلام من القاعدة، لا من فوق.
إن الحديث عن “سلام” تديره ذات النخبة التي مارست الإبادة أو سكتت عنها، هو تكرار مأساوي لنموذج الاتفاقيات التي فشلت في تحقيق السلام لأنها تجاهلت جوهر الأزمة.
العدالة، تقاسم السلطة الحقيقي، وفك البنية المركزية للسيطرة:
لقد آن الأوان أن ندرك أن الطريق نحو الحرية والعدالة والتحول الحقيقي ليس معبّدًا بالشعارات، ولا تمنحه مراكز القوى طوعًا، بل يُنتزع عبر الوعي الجمعي والتنظيم الشعبي والاستعداد الطويل للتضحية وبناء بدائل مستقلة.
وليس ثمة خلاص في التفاوض مع من لم يعترف بإنسانيتنا أصلًا، بل في التأسيس الجذري لعقد اجتماعي جديد، يستند إلى مشروع علماني، ديمقراطي، لا مركزي، وتنموي يوقف دوّامة الحرب والنهب.
وكما قال القائد الثوري أميلكار كابرال:
“لا تخن الثورة بتمثيل عدوها، ولا تمثل شعبك إن لم تكن جزءًا من معاناته اليومية”.
إن المرحلة مفصلية بحق، وقد آن الأوان لأبناء وبنات الهامش أن يميزوا بوعي بين الرموز والواقع، بين التمثيل الشكلي والتمكين الحقيقي، وبين السلام المفروض والسلام العادل.
وهذا لا يتحقق إلا بالاصطفاف خلف مشروع “تأسيس”، لا خلف أسيجة النظام القديم التي أُعيد طلاؤها بلون مختلف.
أخيرًا: لا طريق للتحرر إلا بالمواجهة… وللتاريخ ذاكرة لا ترحم:
إن الطريق إلى سلام عادل وتعايش مستدام لا يمر عبر تحالفات مشوّهة مع بقايا الأنظمة التي أشعلت الحروب ومزّقت المجتمعات، بل عبر تفكيك بنية الدولة السلطوية من جذورها، لا ترقيعها والتواطؤ معها.
وفي هذا الإطار، يمثّل تحالف “تأسيس”، برؤاه الواضحة في العلمانية، اللامركزية، العدالة التاريخية، وإعادة بناء جيش قومي جديد، حجر الزاوية في مشروع إعادة تأسيس الدولة السودانية على أساس جديد من الكرامة والمواطنة، ولامجال للخداع بدعاوي الوقوف مع الوطن.
لكن المؤلم والمؤسف في آن، أن هناك من اختار أن يُزيّف المأساة، ويُشوّه نداء التحرر، ويُتاجر باسم حقوق الإنسان، لا حبًا في الضحايا ولا حرصًا على السلام، بل طمعًا في فتات السلطة، وخدمةً لحكومة بورتسودان وأجهزتها الأمنية.
إلى أولئك الذين يُدينون ضحاياهم، ويهاجمون من يقاتلون عنهم، لابد من القول:
لقد جُرّبت هذه الأساليب من قبل، حين صنعت حكومات الخرطوم أجسامًا “مدنية” لتشويه الحركة الشعبية، وسُرعان ما انهارت أمام وعي الشعوب وصمود المقاتلين.
إن من يلفق في قضايا حقوق الإنسان، ويستخدمها سلاحًا دعائيًا ضد حركات التحرر، يرتكب خيانة أخلاقية وتاريخية، ولن يستطيع، حين تحين لحظة الحساب، أن يقف أمام الأجيال بكرامة أو يدّعي الانحياز للعدالة.
فهذه اللحظة التاريخية كاشفة، لا تقبل الحياد، ولا تغفر التواطؤ.
نقول لهؤلاء:
التاريخ لا يرحم من يقف ضد الثورات باسم “المدنية المزيفة”، ولا من يبيع الموقف مقابل تمثيل زائف أو مكاسب شخصية مؤقتة.
اهربوا من هذا السلوك قبل أن يُصبح سُبتكم الأخلاقي الأبدي، لأنكم إن واصلتم على هذا الدرب، فلن يذكركم أحد إلا كمن وقف ضد ثورة التحرير.
وللشعوب التي عرفت الظلم وعاشت التهميش لابد من القول:
لا خلاص دون مواجهة، لا مساومة مع أدوات القمع، ولا تأسيس لدولة جديدة دون القطع التام مع النظام القديم وكل من يخدمه.
كما قال القائد الثوري توماس سانكارا:
.”الاستقلال لا يُمنح، بل يُنتزع. والسلام لا يُشترى، بل يُبنى”
فالسلام الذي لا يقوم على العدالة الجذرية، ليس إلا استراحة محارب للقاتل.
والدولة التي لا تقوم على الاعتراف التاريخي، ستعيد إنتاج ذات الجريمة بأسماء جديدة وأدوات جديدة، واليوم، الاجسام الهلامية هي أدوات اللحظة.
ومن لا يقف اليوم في صف بناء السودان الجديد، سيجد نفسه غدًا في مزبلة تاريخه.
النضال مستمر والنصر اكيد.