عندما تدين خارجية بورتكيزان حكومتها !

علي أحمد

ما كان لـ”رمضان عبد الله”، وزير خارجية جنوب السودان، أن يدعو الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة للتحقيق فيما جرى للمواطنين الجنوبيين المقيمين بولاية الجزيرة في الجارة السودان، ما لم يكن هناك أمرٌ جدي يستدعي ذلك. فقد صرّح الوزير الجنوب سوداني لدى مخاطبته اجتماع تعزيز القيادة الأفريقية في مكافحة الإرهاب وتعزيز الأمن والسلام، الذي جرت أعماله في نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية الأسبوع المنصرم، أنّ الجيش السوداني والمليشيات المتحالفة معه قتلوا ومارسوا أعمالاً إرهابية ضد رعايا دولة جنوب السودان في ولاية الجزيرة السودانية.

فأين الخطأ في ذلك؟ حتى تهرع وزارة خارجية سلطة الأمر الواقع في بورتسودان ( بورتكيزان) بأنفاس لاهثة وتصدر بيان استنكار تزور فيه بعض الكلمات المفتاحية التي أدلى بها الوزير رمضان عبد الله؛ فتستبدل كلمة (تحقيق) التي استخدمها بـ(تدخل)، ما يُعد تزويراً مريعاً ينسف كل ما تلى ذلك، بحيث أصبح البيان بلا قيمة ولا أثر.

الوزير الجنوب سوداني طالب بأدب واحترام وفي سياق الأعراف الدبلوماسية المرعية بـ(تحقيق) لما حدث بحق مواطني دولته المقيمين في السودان من إرهاب من قبل الجيش السوداني والمليشيات المتحالفة معه، وهذا ما حدث بالفعل وأكثر. فقد تم ذبح وسحل وإهانة وضرب وإرهاب الأشقاء من الجنوب من قبل الجيش ومليشيات درع السودان وكتائب البراء بن مالك وغيرها في ولاية الجزيرة، وتم تصوير وتوثيق كل ذلك من قبل المجرمين ونشره على وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا أمر خطير يستوجب (التحقيق)، وليس (التدخل)، وشتان بين الكلمتين. ولكن فلنفترض أن الوزير “رمضان” طالب الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة بالتدخل صراحة، فماذا في ذلك؟ قيادة الجيش وحلفاؤها الإسلاميون سمحوا لكل من هبّ ودبّ بالتدخل في الشأن الداخلي لبلادنا، فجاؤوا بالمرتزقة من كل حدب وصوب ووضعوا القرارات السيادية للدولة تحت تصرف دولة (جارة)، وسلموها ملف السياسة الخارجية برمته بما في ذلك تعيين وزير الخارجية صاحب الخطاب نفسه. فدولة (البرهان) لا ترى غير هذه الدولة ومعها ثلاث دول أخرى (قطر، تركيا، وإيران) تحرص على تسليمهم (مفاتيح) البلد، أما بقية العالم فليذهب إلى الجحيم.

بيان خارجية بورتكيزان لا يصدر عن ناشط سياسي مبتدئ، مليء بالهياج والصراخ والاتهامات من شاكلة (الحملات الانتقامية المضادة) بحق المقيمين السودانيين في مدن جنوب السودان، و(هؤلاء هرب معظمهم من الحرب التي أشعلتها الحكومة القائمة حالياً). أما ما حدث من تجاوزات في جوبا كان عبارة عن رد فعل شعبي عفوي وطبيعي لما جرى للجنوبيين في السودان، والفرق بين الحالتين واضح وشاسع. فمقتل وإهانة وإرهاب الجنوبيين في ولاية الجزيرة أفعال ارتكبتها الحكومة السودانية، وليس الشعب. أما ما حدث من ردود أفعال مضادة في الجنوب فقد قام بها الشعب، فيما وفرت حكومة (جوبا) الحماية التامة للسودانيين، وخرج الرئيس سلفاكير ووزير الداخلية وحكام المقاطعات إلى الإعلام يهدئون المواطنين حتى تمكنوا من السيطرة على الموقف بحكمة وحنكة وبأقل الخسائر.

تطرق بيان الخارجية عديم القيمة إلى أمور خارج سياق تصريحات وزير خارجية جنوب السودان، فتفرّع وتشعب مشيراً إلى أن هناك من سماهم بـ(مرتزقة) جنوبيين يشاركون في صفوف قوات الدعم السريع، وأن حكومة بورتسودان أخطرت جوبا، لكن الأخيرة لم تتخذ أية إجراءات جدية إزاء ذلك، وأن بعض جرحى الحرب من منسوبي الدعم السريع يتلقون العلاج في مستشفيات الجنوب.

لا شك أن هذا الغباء يشبه تماماً حكومة الأمر الواقع الانقلابية. ولم أكن أعرف أن أكاذيب المأفون ياسر العطا تشكل السياسة الخارجية، ولكن قل ذلك كان كذلك، فإن كان هناك ثمة مرتزقة جنوبيون، فالمؤكد أن هذا هو خيارهم الشخصي، وأن حكومة جوبا لم تنظم حملات تجنيد لمواطنيها وتدفع بهم إلى محرقة جارتها الشمالية، كما ليس هؤلاء من قتلتهم وسحلتهم وذبحتهم وشهّرت بهم حكومة (بورتسودان)، وإنما فعلت ذلك بحق عمال زراعة مسالمين عزل، كما يعلم الجميع.

أما فيما يتعلق بعلاج جرحى الحرب في السودان، سواء كانوا من الدعم السريع أو الجيش أو مليشيات الإرهابيين مثل البراء والعمل الخاص والمستنفرين في مستشفيات الجنوب، فإن هذا عمل إنساني تُشكر عليه (جوبا) أيما شكر. لأن من حق أي جريح في أي حرب، بغض النظر عن الطرف الذي ينتمي إليه، تلقي الرعاية الصحية حتى في مستشفيات أعدائه المباشرين، دعك عن مستشفيات الجيران. فقد كانت إسرائيل تقدم العلاج والرعاية الصحية لجرحى الحرب السورية من منسوبي “داعش” و”جبهة النصرة”! لكن حكومة بورتسودان التي تقتل الأسرى وتفتك بالمدنيين العزل وتقذف بالأبرياء من أعالي الجسور إلى عمق الأنهار، وتضرب وتهين امرأة عجوزاً في قرية هرب منها الجيش وترك مواطنيها أمام مصيرهم، وتصفها بالعاهرة فقط لأنها قدمت كوب ماء لمسلح (دعامي) طلبه منها، لا ينبغي (لومها) على جهلها بأخلاق الحرب.

إنها حكومة بلا أخلاق ولا ضمير، لذلك فإن البيان الذي صدر عن خارجيتها يشبهها تماماً. بيانٌ مثير للسخرية والتقزز والقرف. إنه بيان (إدانة) بحق الجهة التي صدر عنها، وليس العكس.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.