علي يس يكتب: أمريكا.. و حرب السودان

 

لكي نتمثل (معمار) الموقف الأمريكي من حرب السودان الجارية الآن ، لا بد من العودة إلى أواخر عهد البشير ، حين بدأ البشير و أركان دولته في إرسال إشارات الإذعان و الطاعة اللامشروطة “إلا بشرط واحد هو أن يبقوا على كراسي السلطة” إلى الإدارة الأمريكية..
و كان الأمريكان قبلها بزمان قد أخضعوا شخصية البشير لدراسة مكثفة بواسطة خبراء علم النفس الذين تعج بهم مكاتب السي آي أي ( و لاحقاً لجان مهندسي سياسة “الفوضى الخلاقة” )، فكان ملخص تقريرهم أن الرجل يملك “لسانا” بالغ الشجاعة ، و قلبا بالغ الجبن ، و رعونة تجعل لسانه يسبق عقله.

فكان لازما أن يأتي التعامل مع الرجل وفقاً لمخرجات تلك الدراسة ، بدءاً بالتلويح المستمر بمحكمة الجنايات الدولية (في الوقت الذي امتنعت فيه الإدارة الأمريكية عن التوقيع على قرار إنشاء تلك المحكمة و ظلت ترفض بعنجهية أن يقدم أي من حملة الجنسية الأمريكية إلى تلك المحكمة!!!) ثم ظلت الإدارة الأمريكية تراقب ردود فعل البشير بدءاً من (امريكا تحت حذائي) و حتى ركوعه أمام بوتين طالبا الحماية من أمريكا..
ثم بدأت رسائل الأمريكان التي أرفقت مع العصا – هذه المرة – جزرة صغيرة ، فكانت ردود فعل البشير معبرة عن استيعابه الدرس كاملاً ، و بدأ التلويح بعدم الممانعة من التطبيع مع إسرائيل ، و تم التمهيد لذلك عمليا بحذف العبارة التي رافقت جواز السفر السوداني منذ نشأته : ( يسمح لحامله بالسفر إلى جميع دول العالم ما عدا إسرائيل) ..
كان الأمريكان يتأهبون لبدء (التعاون المثمر) مع البشير بعد ترويضه ، حين انفجرت ثورة ديسمبر التي أجزم بأنها فاجأتهم على غير العادة ، إذ اعتادوا ألا يفاجأوا بأية ثورة شعبية في دول عالمنا الثالث ، و لهذا فقد انطلقوا في سباق مع الوقت ، و بتنسيق متعجل مع رجلهم في السودان آنذاك “صلاح قوش” و مع بعض قادة محيطنا الإقليمي ، في سلسلة من التدخلات الهادفة إلى افراغ الثورة من محتواها القيمي و أهدافها الحقيقية ، فلم يكن خافيا دورهم في تقديم البرهان ممثلا للعسكر ولا دورهم في “رعاية” الوثيقة الدستورية ، و لا دورهم في زيارات البرهان إلى القاهرة ، و التي عاد من آخرها حاملاً “تطمينا” بأن فض اعتصام القيادة العامة بالقوة لن يحرمه رضاء الإدارة الأمريكية “ما دام ملتزما بوعده بلقاء نتنياهو في العاصمة الأوغندية” ..
كانت الإدارة الأمريكية تعلم جيداً أن البرهان هو (مندوب) المؤتمر الوطني في الحكومة الانتقالية ، و كانت تعلم يقينا أن وعده بالتطبيع مع إسرائيل هو في الحقيقة “وعد” المؤتمر الوطني ، و حين تم لقاء البرهان بنتنياهو بعد ذلك كان الأمريكان يدركون جيدا أن السماح بمرور الفترة الانتقالية بسلام و بالتالي نشوء برلمان منتخب سيعني إلغاء مشروع التطبيع مع إسرائيل و العودة إلى نقطة الصفر.. فالجهة الوحيدة في السودان التي يثق الأمريكان أنها ستأخذ أمر التطبيع بجدية هي المؤتمر الوطني الذي يتصرف البرهان بمشورته..
إذا.. ما الذي يتعين فعله حتى يمضي التطبيع مع إسرائيل إلى غاياته المرسومة ؟!
لا خيار سوى عودة المؤتمر الوطني ، فهو الجهة التي أنفقت الإدارة الأمريكية الكثير من الجهد في ترويضها ، و هو الذي أصبحت مصالحه مرتبطة ، عضويا ، بمشروع التطبيع مع إسرائيل.
لهذا لم تأت زيارة المبعوث الأمريكي إلى الخرطوم عشية انقلاب الخامس و العشرين من اكتوبر ، و لقاؤه بالبرهان عبثا ، بل كانت الزيارة و ما دار فيها تحريضا على الانقلاب ، و تحريضا على إعادة تمكين المؤتمر الوطني من السلطة حتى ينجز المهام الموكلة إليه.
لقد توافقت تماما الأهداف الأمريكية مع أهداف المؤتمر الوطني ، و هي ذات الأهداف التي أشعلت الحرب. المسألة بالنسبة للمؤتمر الوطني مسألة حياة أو موت ، أما بالنسبة للأمريكان فهي مسألة حياة (لإسرائيل) أو موت لشعب السودان!!!…
الذين ينتظرون من الإدارة الأمريكية أن تسهم في إيقاف الحرب في السودان ، سينتظرون إلى الأبد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.