(إخوان السودان).. تاريخ من الإبتزاز السياسي وخيانة للوطن من أجل البقاء..!
كتب : عبدالمنعم عيسي كرار
ما بعد ثورة ديسمبر المجيدة أبدى غالبية السودانيين استغرابهم الشديد ودهشتهم البالغة عن طبيعة موقف الحكومة المصرية حيّال الثورة ومشروع التغيير الجديد في السودان وذلك بالوقوف المُعلن مع رموز النظام القديم من دون مواربة ، كان البعض يظن مع حسن النية بأن مصر أخيراً قد تنفّست الصعداء بعد ذهاب نظام الإخوان في جنوب وادي النيل بعد أن نجح الجيش المصري في إبعادهم عن الحكم في العام 2013 بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي، والبعض الآخر كان متحفظاً بعض الشئ وقلق على طبيعة تلك العلاقة المعقدة التي تربط بين مصر (الدولة) والجيش السوداني الذي كان يأتمر بأمر الإسلاميين ويسير على نهجهِم البراغماتي في إدارة الدولة منذ مطلع التسعينيات وحتى سقوط البشير ، وكان أنصار تلك الرؤية الفاحصة هم الأقرب إلى الصواب.
في العام 1989 وبعد وصول الجبهة الإسلامية للحكم في السودان عبر بوابة الجيش ، تواصل الرئيس الراحل حسني مبارك في أكثر من مرة مع قائد الجيش ونائبه الفريق الزبير محمد صالح بضرورة السيطرة على مقاليد الحكم في البلاد مع إبعاد الإسلاميين عن السلطة وعدم تمكينهم من ذلك ، وقد حصل مبارك الذي كان قلقاً بهذا الشأن على بعض التطمينات (وقد ذكر ذلك المرحوم الدكتور منصور خالد في لقاء تلفزيوني سابق) ، ولكن لم يتم تنفيذ ذلك الوعد نسبةً لتصفية نائب الرئيس آنذاك في حادثٍ مشهود بمدينة الناصر وذلك بعد زيارتهِ الغامضة لمصر ، لتبدأ مرحلة مضطربة يشوبها العداء بين حكومة مبارك وحكومة الإنقاذ التي كان يسيطر عليها الدكتور حسن الترابي بشكلٍ كامل ، إلى أن وصل العداء مبلغه في محاولة إغتيال الرئيس مبارك في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا.
ثم دفع السودان تكلفة تلك المغامرة الحمقاء بدخول الجيش المصري لمثلث حلايب وشلاتين عنوةً وقوة كرد فعل مضاد وغاضب على تورّط حكومة الخرطوم في تلك المحاولة الفاشلة والخطيرة ، ثم إنحنى الجيش ورموز السلطة القائمة آنذاك لتلك العاصفة الهوجاء وإمتصاص غضب الجارة مصر لضمان وجودهم على سُدة الحكم ، وبدأت مرحلة أخرى قائمة على الخنوع والإستسلام التام من قِبل نظام الإنقاذ ؛ والإبتزاز السياسي من قِبل الجانب المصري بعد أن رهنت الإنقاذ أرضاً عزيزة من الوطن مقابل أفراد أثبتت الوقائع تورطهم في تلك الجريمة السياسية المعروفة ، ليضع بعدها الإسلاميين لبنة أول دولة فاشلة قائمة على الخنوع والخضوع والإبتزاز السياسي مقابل البقاء وحُكم البلاد ؛ وبعدها رسَم قلم المخابرات المصري صورة جديدة لملامح تلك العلاقة الشائهة التي مازالت ماثلة حتى يومنا هذا.
إحتفظت مصر بالرئيس المخلوع جعفر نميري بعد ثورة أبريل الشعبية التي أطاحت به عن الحُكم ، وكانت علاقة مصر الرسمية بحكومة الإمام الصادق المهدي ليست بالجيّدة وذلك لأنها قد فقدت حليفاً قديم من داخل الجيش ولم ترحب أبداً بالعهد المدني والديمقراطي الناشئ في ذلك الوقت بالرغم من جهود الإتحاديين حلفاء مصر تاريخياً وشركاء حكومة الصادق المهدي في محاولة تلطيف الجو السياسي بين البلدين.
وبعد ثورة ديسمبر المجيدة ؛ إحتفظت مصر كذلك بمدير جهاز المخابرات والصندوق الأسود لحقبة الإنقاذ البائدة الفريق صلاح قوش و ذلك ليس إعتباطاً وإنما له ما بعده من مهام ؛ لتبدأ سلسلة طويلة من المؤآمرات ضد الثورة في مهَدها الأول وضد حكومة الدكتور عبد الله حمدوك ، وذلك من أجل توليف صيغة جديدة تضمن بقاء الجيش على سُدة الحكم حتى ولو إستعان بالحرس القديم وذلك لضمان بقاء واستمرار المصالح المشتركة فيما بينهم ، وقد فتحت حكومة الإنقاذ أبواب الموارد والثروة السودانية بشكلٍ واسع وغير محدود أمام جمهورية مصر وذلك عبر المنظومة الإقتصادية للجيش التي يقف من خلفها تنظيم الحركة الإسلامية ؛ ولعلّ ذلك يُبين ويُفسر عن طبيعة تلك العلاقة التي إمتدت لفترة طويلة وشملت ملفات ذات خاصية أخرى بعيدة عن الاقتصاد ، لذلك كان نظام الإنقاذ وتنظيم الإسلاميين في السودان لايُشكّل أي خطورة على العمق الأمني والإستراتيجي داخل مصر من حيث طبيعة العلاقة بينهم وبين تنظيم الإخوان والتي تكاد تكون محدودة فيما بينهم ؛ وذلك لأنهم مُجرد سماسرة وتجار مُفسدين يسعون فقط من أجل المصالح المرتبطة بوجودهم ككيان سياسي وتكريس السلطة بالنسبة لهم ؛ حتى ولو تقزّمت الدولة وانقسمت من جديد كما ذهب جنوب السودان مأسوف عليهِ في عهدهِم المشؤوم ، لذلك كانت مصر دار هجرة لأنصار النظام المُباد من سياسيين وصحفيين وغيرهم وكانوا داعمين لمشروع الجيش في الإحتفاظ بالحكم من خلال حملة ممنهجة ضد القوى المدنية التي تسعي لقيام سلطة مدنية ونظام ديمقراطي راسخ وفقاً لمطالب الثورة في الحرية والسلام والعدالة.
من المحزن جداً والمؤسف عدم إحترام مصر الرسمية لتطلعات ورغبة الشعب السوداني في تغيير حقيقي وفقدانهِم لجانب الحِكمة والصواب والإحترافية في الإستعانة بالبرهان الرجل الخطأ في الزمان الخطأ الذي فشل في الحرب قبل السلام ، لم يُحالف الحظ مصر في إدارة كثير من الملفات المصيرية المعقدة بين البلدين ورسم صورة مستقبلية لعلاقات طبيعية مع الشعب السوداني بعيدة عن أطماع بعض النخب العسكرية والأمنية والسياسية الفاسدة والتي حتماً مصيرها إلى الزوال والعدم ، ويبقى المستقبل للشباب وهم القوة الحقيقية القادمة والقادرة على إنجاز المستحيل وذلك ليس ببعيد المنال.
أديس أبابا 11/5/2024