الموقف الإيرانىّ من حرب السّودان:   الخيارات القاتلة، غير الضّروريّة.

عبد الحفيظ مريود

لا شكّ أنّ محفّزات إيران للوقوف إلى جانب الجيش السّودانىّ فى حربه ضدّ الدّعم السّريع، والتى بدأتْ فى الخامس عشر من أبريل 2023م، تستند إلى جملة مبرّرات واعتبارات استراتيجيّة. كما وأنّها تشتملُ على تقديرات وتقارير مضلّلة خضعتْ لها المخابرات الإيرانيّة، لا سيّما وأنّ الوجود الفيزيقى لها ظلّ متقطّعاً طوال سبع سنوات. وهو شيئ يجعلُ الموقف الإجمالىّ للجمهورية الإسلاميّة مشكلاً إضافيّاً فى الأزمة السودانية، وليس داعماً للحلّ، حتّى وإنْ عوّلتْ على إمكانيات الجيش السّودانىّ فى الحسم العسكرىّ.
الاعتبارُ الأوّل هو إمكانية أنْ يمهّدَ الدّعم العسكرىّ المحدود الذى تقدّمه إيران أرضيةً تمكّنها من وضع أقدامها على البحر الأحمر. ذلك المملكة العربيّة السعودية ظلّتْ تعوّل منذ بعض الوقت عليه، كما تمثّلُ الرغبة الإماراتيّة حافزاً آخر. وفى ظلّ ظروف حكم الرئيس البشير التى رافقت سنواته الأخيرة، لم يكن بإمكان إيران أنْ تحصل على موطئ قدم على البحر الأحمر، على الرّغم من محاولاتها المتعدّدة، لا سيّما سنوات أزمة  دارفور الأولى، الملاحقات الأمميّة والتحايلات الغربيّة  لتوفير شروط مناسبة للإطباق على النّظام. فقد عرضتْ فى العامين 2010 و 2011م على الخرطوم المساعدة فى تفادى الأقمار الاصطناعية الأوربية والأمريكية التى تثبت ضلوعها فى القيام بجرائم حرب، وارتكاب إبادة جماعية  فى دارفور. ولم يكن ذلك ليكلّف الخرطوم غير التصديق  بإنشاء محطتين إحداهما  على البحر الأحمر والثانية فى غرب دارفور، الجنينة. لكنّ الخرطوم رفضتْ باعتبار أنّ الأمر سيسبّب لها حرجاً وتعقيدات مع الخليج، وهى أحوج ما تكون إلى الخليج  فى المحافل الدوليّة، إذا ما نشب أىّ تصويت. بقدر حاجتها للدّعم الخليجىّ للأوضاع على الأرض. بمعنى آخر: كانت الحاجة إلى دول الخليج أكبر من الموقف المبدئىّ، باعتبار أنّ إيران هى المثال الأعلى للإسلام السياسىّ الثورىّ، الذى تصنّف الحركة الإسلامية السّودانيّة نفسها رائدةً فيه على مستوى العالم الإسلامىّ السُّنىّ.
ولو حصلتْ إيران على تطمينات ووعود مستقبليّة من قائد الجيش الفريق البرهان والإسلاميين الذين يمسكون بتلابيب الخدمة المدنية ويشكّلون الجهاز السياسىّ الراهن، ممثلاً  فى وزارة الخارجية  وجهاز المخابرات، فإنّ الفرصة ستكون هى الأثمن على الإطلاق بالنّسبة لها، فى ظلّ عزلة إقليميّة إفريقيّة وعربيّة يعانى منها الجيش والدولة العميقة للإسلاميين. من جهة ثانية، فإنّ ثمّة تنافساً مكتوماً  على موارد مضمونة، لا سيّما اليورانيوم، الذى يشكّلُ مربع 16_أ، شمال الفاشر مخزوناً استراتيجيّاً  له، تشير التقديرات إلى نسبة مئوية  عالية، ضمن الاحتياطى العالمىّ. وبوقوفها إلى  جانب الجيش، فإنّ حصولها على امتيازات سيكون مؤكداً، فى حال انتهت الحرب لصالحه. هذا فضلاً عن القلاقل التى سيسببها حضور إيران فى المشهد بالنّسبة  للمملكة  السعودية  والإمارات، والمتّهمتين  بميول  خفيّة  ومعلنة،  داعمة  للدّعم السّريع.
الوضع ، أيضاً، يضمنُ لإيران فرصة للتمدّد فى شرق ووسط إفريقيا على الصّعيد المذهبىّ، وإنْ كانت فى السنوات الأخيرة لا تعيرُ النّشاط المذهبىّ أهميةً  كبرى. لكنْ إنْ حدث وانتصر الجيش وعاد الإسلاميون إلى المشهد، فإنَّ وجودها فى السّودان سيمكنها من تسوية قضايا مذهبيّة  فى إثيوبيا، إرتيريا، يوغندا. وعلى  غير ما هو متوقع، فإنّ الدّول الثلاث  تتوفّر على نسب معتبرة  من الشيعة، يواجهون حملات وهابية  وسلفية لا تملك إيران أنْ تعالجها بطرق مباشرة. لكنّها تستطيع أنْ تفعل أكثر من معالجتها فى حال انبسطتْ تفاهماتها  الوجودية فى سودان ما بعد الحرب.
أخطاء استراتيجيّة:
تلعبُ التقاريرُ المضلّلة  والعمى الذى يسبّبه الغرض، عاملان رئيسان فى تشكيل الموقف الإيرانىّ. بالنسبة إلى علاقاتها السابقة بالنّظام، فإنَّ إيران بلا شك قد عمدتْ إلى الوثوق فى عناصر مخابراتيّة. كما اعتمدتْ على تقارير شبه طائفيّة، من الموالين لها من الشيعة السّودانيين فى تحديد عناصر الموقف الميدانىّ على الأرض، الذى سيسهم فى بلورة موقفها الداعم للجيش. وملخصه أنّ قوات الدّعم السّريع مليشيا قبليّة، مدعومة إماراتيّاً، اضطلعت بتنفيذ إنقلاب عسكرىّ على “النّظام الشّرعىّ”، لإعادة قوى إعلان الحرية والتغيير إلى الحكم، أو لإرساء دعائم حكم أسرىّ، عائلىّ. بعد الضربات المتتالية التى وجهها لها الجيش السّودانىّ، فإنّ المليشيا تترنّح، توشك على السّقوط، ولا ينقص الجيش إلّا القليل من المسيّرات، وربّما المقاتلات ليحسم المعركة خلال أسبوعين أو ثلاث.
هذه هى المعلومات الشائعة، التى ظلّ الجيش وعناصر وإعلام الإسلاميين يردّدونها، إضافةً إلى أنَّ التفاف “المقاومة الشّعبيّة” حول الجيش، يشيرُ إلى أنَّ المليشيا المجمّعة من “عربان الشّتات”، من تشاد، إفريقيا الوسطى، مالى، النيجر، والمرتزقة الإثيوبيين، الجنوبسودانيين والليبيين، لا حواضن اجتماعية لهم فى السّودان، وبالتالى فهى حرب السودانيين الأحرار ضدّ المرتزقة.
لكنَّ الواقع يقول إنَّ ذلك لا أساس له على الأرض. إذ بينما يكاد العام الأولُ للحرب يقترب من نهاياته، يبدو أنَّ جهد الجيش ينصبّ فى التكتّل وتحشيد القوات والمستنفرين و”القوات الصديقة”، بحيث لا تسقط رئاسة فرقة أخرى أو ولايات أخرى فى يد قوات الدّعم السّريع. وأنَّ كلَّ ما يفعله الجيش فى الخرطوم هو الهجوم المتكرّر ” من عدّة محاور” لتحرير أىّ كيلو متر من قبضة الدّعم السّريع، ليعلن انتصاراً. وأنّه ظل يعلن عن تقدّمه فى مدينة أمدرمان، إحدى مدن العاصمة الخرطوم، ويصوّر فيديوهات للبث، قبل أنْ يتراجع عن كلّ خطوة خطاها، هذا إنْ لم يتراجع عن ارتكازاته التى انطلق منها. أو أنْ يصدّ هجوماً من الدّعم السّريع على سلاح المدرّعات، أو سلاح المهندسين.
فى تفكيك التضليل، لا يصحُّ الزّعم بأنَّ الشعب السّودانىّ مصطف فى “مقاومة شعبيّة” وراء الجيش، على غرار ما حدث فى العراق لدحر الدّواعش، أو المقاومة الفلسطينيّة فى غزّة. إذ ليس ثمّة من إجماع على أنّ قوات الدّعم السّريع قوات غازية. العكس تماماً، فالسّودانيون يعرفون أنّها قوات سودانيّة نشأتْ منذ عشرسنوات، وظلّ الجيش ذاته يدافع عنها، يطوّر قدراتها، يردفها فى قراره، أصبح قائدها العام نائباً لرئيس مجلس السيادة، رئيسا لوفد التفاوض مع الحركات المسلّحة، وأنّها تطورت خلال عشر سنوات بشكل غير مسبوق، وينتمى أفرادها إلى حواضن اجتماعيّة  واسعة وراسخة.
لكنَّ العجلة فى تقديرها هى التى أوردت الجيش السّودانىّ موارد الهلاك وجعلته أضحوكةً بين جيوش إفريقيا. يتخبّط يمينا ويساراً، طلباً  للعون والإمداد. وهى ذات العجلة التى تدفع إيران إلى اتخاذ موقف سيورطها فى حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل. لو تريّثتْ إيران لوقعت على المعلومات اليقينيّة  بشأن قوات الدّعم السّريع  وحتمية  وجودها فى صياغة السّودان القادم. فإيران، اجتماعيّاً، تعزلها طبقات عن النّفاذ إلى المجتمع السّودانىّ. وبالتالى لن تستطيع  في ظلّ تحالفات آيلة  للسقوط  تحقيق أىّ اختراق ثقافى اجتماعىّ سياسىّ.
مكمن الورطة:
الانخراط فى تفاصيل عمليّة، دعماً للجيش السّودانى سيجلب تعقيدات اقليميّة إضافيّة. ذلك أنّه بعيداً عن ملف اليمن، فإنّ إيران تضطلع بوضع بالغ الدّقة فى منطقة الشّام، وفى محور المقاومة. لم تتفكّك، بعدُ، خيوطه المتشابكة. فى العراق لا يبدو الوضع أفضل من ذلك. وحين تخوض فى ملف السّودان فإنّها تتوغّل فى البحر الأحمر، الذى سيجلب المزيد من المواجهات بينها وبين الغرب الدّاعم لإسرائيل، وحظوظ تحالفاتها مع الدّول المطلّة على البحر الأحمر والمهيمنة عليه ضعيفة. فضلاً عن عدم خبرتها فى الشأن السّودانىّ، الذى إذا أرادتْ أنْ يكون لها وضع فيه، فإنّ الأوفق أنْ يكون بالحسنى، لا بصبّ المزيد من الزّيت، نكاية فى السعودية أو الإمارات.
يضيّق الجيش السّودانى والمتحالفين معه  الإسلاميين فرص الوصول إلى سلام. الواضح  أنّ الإقليم يشدّد حصاراً عليهم. خسروا الاتحاد الإفريقىّ، إيغاد، الدّعم العربىّ، حتى أنّ مصر بدأتْ ترخى قبضتها عن التمسّك بحتمية انتصار الجيش.. الاستنصار بإيران يعنى التوغّل عميقاً فى عداء مع الجميع، لا لسبب إلّا لعجز فى مواجهة ملفات داخليّة بحتة…سواء كانت الحرب على الدّعم السّريع، أو التفاهم مع القوى السياسيّة المصمّمة على الإنتقال الديمقراطىّ. لا أحد سيصغى إلى هرطقات : يريدون أنْ يوطّدوا العلمانيّة..يريدون أنْ يكونوا أذرع للمخابرات الأجنبيّة….الخ.
هى صفقة خاسرة من جميع الاتجاهات للطرفين: إيران والجيش السّودانى، المتحكّم فيه من قبل الإسلاميين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.