خالد كودي يكتب: الأسلحة الكيميائية كخيار استراتيجي في لحظات الانهيار: بين المسؤولية العسكرية والمساءلة الدولية (الجزء الأول)

الأسلحة الكيميائية كخيار استراتيجي في لحظات الانهيار: بين المسؤولية العسكرية والمساءلة الدولية (الجزء الأول)

 

خالد كودي _ بوسطن

 

مدخل: الأسلحة الاستراتيجية كعلامة على مأزق النظام:
لطالما اعتُبرت الأسلحة الاستراتيجية – بما في ذلك الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية – أدوات قصوى تُستخدم في سياقات محددة عند بلوغ الأنظمة لحظات انهيار سياسي أو عسكري. وبخلاف التصور السائد، فإن اللجوء إلى هذه الأسلحة لا يُعبّر عن القوة، بقدر ما يُفصح عن الضعف البنيوي للأنظمة التي تستخدمها، خاصة عندما تُستعمل ضد السكان المدنيين. من بين هذه الأسلحة، تُعد الأسلحة الكيميائية من أخطر أدوات الحرب، لما تسببه من آثار كارثية على المستوى الإنساني والبيئي، ولأنها تُوظف غالبًا لإحداث رعب شامل يخترق المجتمع المستهدف نفسيًا وجسديًا.

متى ولماذا تُستخدم الأسلحة الكيميائية؟
تلجأ الدول أو الجماعات المسلحة إلى الأسلحة الكيميائية غالبًا في ثلاث حالات استراتيجية:
١/ اختلال ميزان القوى العسكري: عندما تعجز الجيوش النظامية عن تحقيق تفوق ميداني باستخدام الوسائل التقليدية
٢/ ردع التمردات الشعبية: عندما يُنظر إلى جماعات سكانية بكاملها بوصفها “حاضنة للعدو”، كما في الحالات التي تتماهى فيها السلطات مع أيديولوجيا تبرر الإبادة.
٣/ تصفية إثنية أو سياسية ممنهجة: في ظل أنظمة ترى في العنف الشامل وسيلة لإعادة هندسة التركيبة السكانية أو السيطرة على موارد الأطراف.

تُظهر نماذج عديدة في التاريخ – من الحرب العالمية الأولى إلى سوريا والعراق – أن استخدام الأسلحة الكيميائية غالبًا ما يتم في لحظات التراجع الاستراتيجي والانهيار السياسي، وليس في ذروة السيطرة.

من يُصدر القرار؟ المسؤولية في تسلسل القيادة العسكرية – السياق السوداني:
تُعد الأسلحة الكيميائية من أخطر أدوات الحرب الحديثة، وتُصنّف كأسلحة استراتيجية غير تقليدية، مما يعني أن استخدامها لا يتم بقرار ميداني أو عفوي، بل يصدر عن مستويات عليا في التسلسل القيادي العسكري والسياسي. في جميع السوابق التاريخية التي تم فيها استخدام هذه الأسلحة، ثبت أن القرار كان يصدر من:
١/ القائد العام للقوات المسلحة أو رئيس الدولة، بوصفه صاحب السلطة العليا في إدارة الحرب
٢/ هيئة الأركان العامة، المسؤولة عن التنسيق العملياتي والاستراتيجي، وتحديد طبيعة الأسلحة المستخدمة بحسب طبيعة الجبهة
٣/ الوحدات الفنية المتخصصة في الأسلحة الكيميائية، وهي وحدات نادرة، تخضع لرقابة أمنية واستخباراتية مشددة، ولا يمكن تفعيلها إلا بأوامر مباشرة من القيادات العليا.

بناءً على ذلك، فإن أي استخدام للأسلحة الكيميائية في السودان – كما تشير الأدلة الميدانية والتقارير الدولية – لا يمكن تفسيره بأنه تصرف فردي أو ميداني معزول. بل هو قرار استراتيجي يتطلب معرفة، وتنسيقًا، وتخطيطًا، وغطاءً سياسياً من رأس الدولة أو القيادة العسكرية العليا. وهذا ما يجعل المسؤولية الجنائية لا تقتصر على المنفّذين الميدانيين، بل تمتد بالضرورة إلى من أمروا، أو تغاضوا، أو فشلوا في منع الجريمة، وفقًا لمبدأي:
المسؤولية الفردية المباشرة
(individual criminal responsibility)
المسؤولية القيادية عن الإشراف والإهمال
(command responsibility)
المنصوص عليهما في المادة 25 و28 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

وفي السياق السوداني، فإن ما كشفت عنه وزارة الخارجية الأمريكية في أبريل 2025 حول استخدام الجيش النظامي لأسلحة كيميائية في دارفور والخرطوم، يضع القيادة العامة للجيش السوداني، وعلى رأسها القائد العام عبد الفتاح البرهان، وهيئة الأركان، ووحدات الأسلحة الخاصة، في دائرة الاتهام المباشر. فإقرار استخدام مثل هذه الأسلحة في مسارح مدنية لا يمكن أن يتم دون علم وموافقة هؤلاء.
وهذا ما يفتح الباب قانونيًا وأخلاقيًا لمساءلة واضحة قد تتطور إلى:
١/ مذكرات توقيف دولية صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية
٢/ مطالب شعبية بمحاكمات داخلية ذات مصداقية
٣/ إجراءات قضائية دولية بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية، كما فعلت محاكم أوروبية في ملفات سوريا ورواندا.
إن ربط القرار العسكري بالمحاسبة القضائية لم يعد خيارًا سياسيًا، بل ضرورة أخلاقية، وهو ما يجعل إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية في السودان، وفرض الرقابة المدنية عليها، وتقديم المتورطين للمساءلة، شرطًا جوهريًا في أي مشروع انتقالي لبناء دولة القانون بعد الحرب.

يُعد الجيش السوداني من بين الجيوش القليلة في العالم التي لجأت مرارًا إلى استخدام أسلحة استراتيجية محرّمة دوليًا ضد مواطنيها، لا في إطار صراعات مع قوى خارجية، بل كأداة قمع داخلي ممنهج ضد سكان الهامش. هذا الاستخدام لا يعبّر فقط عن مأزق عسكري أو انهيار تكتيكي، بل عن عقيدة سلطوية ترى في المجتمع هدفًا مشروعًا للحرب، وتُحوّل الدولة إلى جهاز عنف شامل.
١/ جبال النوبة – التسعينيات: خلال حملات التطهير العرقي التي قادها نظام البشير ضد قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال، وثّقت منظمات إغاثة وشهادات ميدانية استخدام الجيش السوداني قذائف محمّلة بمواد حارقة ومجهولة التركيب الكيميائي في مناطق مأهولة بالسكان، خصوصًا في جنوب كردفان، ما أدى إلى إصابات واسعة النطاق بحروق وتشوهات، إضافة إلى حالات إجهاض وتلف في العينين والجهاز التنفسي.
٢/ دارفور – جبل مرة (2003–2016): في تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية عام 2016، تم توثيق أكثر من ثلاثين هجومًا كيميائيًا نفّذها الجيش السوداني وقوات حليفة في منطقة جبل مرة، باستخدام مواد كغاز الخردل، مما تسبب في مقتل ما لا يقل عن 250 شخصًا، معظمهم من الأطفال والنساء، إلى جانب ظهور أعراض مروعة مثل القيء الدموي .

٣/ جنوب السودان – التسعينيات: خلال الحرب الأهلية الثانية، أفادت منظمات طبية بوقوع هجمات بالغازات السامة في مناطق مثل “لاينيا” و”ياي”، أدت إلى أعراض تسمم جماعي بين المدنيين. وقد رُبطت هذه الهجمات بوحدات عسكرية سودانية كانت تنفذ عمليات برية ضد السكان المشتبه في تعاطفهم مع الحركة الشعبية.

٤/ دارفور والخرطوم – 2024: في أبريل 2025، أصدرت الولايات المتحدة رسميًا قرارًا يدين الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيميائية خلال العمليات العسكرية في عام 2024. وبحسب التحقيقات، استخدمت القوات المسلحة السودانية غازات السارين، والخردل، والكلور في مناطق مثل مليط، الكومة، نيالا، وكباكبية، ما أدى إلى وقوع ضحايا من المدنيين بأعداد كبيرة، إضافة إلى تلوث بيئي حاد وارتفاع حالات الإجهاض والحروق الكيميائية.

هذه الانتهاكات، بحسب القرار الأمريكي، تمثل خرقًا فاضحًا لاتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية لعام 1993، التي صادق عليها السودان في 1999، وقد تم على إثرها فرض عقوبات صارمة تشمل:
تجميد أصول القادة العسكريين السودانيين
حظر تصدير المعدات العسكرية والتقنية ذات الاستخدام المزدوج
قيود على المعاملات المالية والدخول إلى الولايات المتحدة
احتمال فتح ملفات قضائية دولية بموجب نظام روما الأساسي
إن تكرار استخدام الجيش السوداني للأسلحة الكيميائية يضعه في مصاف الأنظمة التي ارتكبت جرائم دولية كبرى، كما في حالات صدام حسين في حلبجة (1988)، وبشار الأسد في الغوطة وخان شيخون (2013 و2017). وفي كل هذه الحالات، أثبتت المحاكم الدولية أن استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين لا يسقط بالتقادم، ويشكّل جريمة حرب و/أو جريمة ضد الإنسانية، وقد يؤدي إلى مذكرات توقيف دولية، كما حدث في ملفات العراق وسوريا.
في السياق السوداني، فإن مسار العدالة الدولية بات مفتوحًا، سواء عبر المحكمة الجنائية الدولية – وفق مبدأ المسؤولية القيادية – أو عبر آليات الولاية القضائية العالمية في بعض الدول الأوروبية. وتُظهر هذه السوابق أن الإفلات من العقاب في جرائم استخدام الأسلحة الاستراتيجية لم يعد مضمونًا، وأنه ما من نظام يستطيع أن يخوض حربًا ضد شعبه بأسلحة الإبادة ثم يزعم المشروعية السياسية

الإطار القانوني الدولي: تجريم وتحديد المسؤولية:
ينظم استخدام الأسلحة الكيميائية عدد من الاتفاقيات الدولية، أبرزها:
اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية:
(CWC) 1993
تحظر تمامًا تطوير أو إنتاج أو تخزين أو استخدام الأسلحة الكيميائية.
وتنص على التفتيش والمساءلة، وتخول منظمة حظر الأسلحة الكيميائية
(OPCW)
صلاحية إجراء التحقيقات.

بروتوكول جنيف لعام 1925:
يُعد أول وثيقة دولية تحظر استخدام الغازات السامة في النزاعات المسلحة
نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998)
يعتبر استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين جريمة حرب، وإذا كان الاستخدام جزءًا من هجوم منهجي واسع، فإنه يرتقي إلى جريمة ضد الإنسانية أو إبادة جماعية.

آليات المحاسبة: من المسؤولية إلى العدالة:
يتم تحديد المسؤولية وفق مبدأين قانونيين:
١/ المسؤولية الفردية الجنائية: بموجب المادة 25 من نظام روما، يمكن محاكمة الأفراد، بمن فيهم رؤساء الدول، إذا ثبت أنهم أمروا أو ساهموا في ارتكاب الجريمة.
٢/ المسؤولية القيادية (المادة 28): القادة العسكريون والمدنيون يُحاسبون إن كانوا يعلمون – أو كان ينبغي أن يعلموا – باستخدام هذه الأسلحة، ولم يتخذوا الإجراءات اللازمة لمنعها أو معاقبة مرتكبيها.

المساءلة قد تكون عبر:
المحكمة الجنائية الدولية (ICC)-
المحاكم الخاصة (مثل المحكمة العراقية أو محكمة يوغوسلافيا))-
محاكم الدول التي تعتمد مبدأ الولاية القضائية العالمية (كما في ألمانيا والسويد والنرويج

من محرقة الكيماوي إلى أفق التأسيس: دوافع الجريمة وضرورة القطيعة
إن لجوء الجيش السوداني إلى استخدام الأسلحة الكيميائية ليس حدثًا معزولًا أو استثناءً في منطق الحرب، بل تعبيرٌ مكثّف عن نموذج الدولة السودانية في صيغتها التاريخية: دولة لا ترى في شعبها شريكًا في السيادة، بل تهديدًا دائمًا ينبغي إخضاعه بالقوة القصوى. في السياق السوداني، لم تكن الحرب وسيلة لحماية الحدود أو صد عدوان خارجي، بل كانت دائمًا وسيلة لإعادة إنتاج سلطة المركز، وتثبيت امتيازاته التاريخية عبر القمع العنيف – وقد بلغ هذا القمع ذروته حين استُخدمت ضد المدنيين الأسلحة الكيميائية المحرّمة دوليًا.
إن استخدام غازات مثل السارين والخردل والكلور في مناطق مدنية كما حدث في عام 2024 في دارفور والخرطوم، لا يمكن فهمه إلا بوصفه استراتيجية نظام مأزوم، فقد شرعيته الأخلاقية، وعجز عن السيطرة السياسية، فلجأ إلى الإبادة بوصفها خطابًا وسلاحًا في آنٍ واحد. حين تفقد النخب الحاكمة أدوات الإقناع، وحين يتآكل مشروع الدولة من داخله، يصبح التدمير الجماعي للمجتمعات المُطالِبة بحقوقها – لا العدو الخارجي – هو ميدان العمليات.
هنا تتجلّى الدوافع العميقة لاستخدام الأسلحة الاستراتيجية: إنها تعبير عن دولة لم تُبنَ على التعدد، بل على الإقصاء؛ لم تُصغَ من وعي المواطنة، بل من منطق الفتح الداخلي؛ لم تُؤسَّس لحماية الحياة، بل لضبطها وقتلها عند الضرورة. هي دولة تفكر في الناس بوصفهم “تهديدًا أمنيًا” لا شركاء سياسيين، وترى في “المجتمع” عقبة أمام الهيمنة، لا أساسًا لبناء شرعية دستورية
لقد كشفت الكارثة الكيماوية بما لا يدع مجالًا للشك أن الدولة السودانية في شكلها القائم غير قابلة للإصلاح، وأن محاولات إعادة تأهيلها من داخلها محكوم عليها بالفشل، لأنها تقوم على بنية قتالية لا على عقد اجتماعي، وعلى تحالف بين السلاح والعقيدة لا بين الشعب والقانون.
من هنا، فإن الطريق الوحيد للخروج من هذا المأزق لا يكمن في مجرد محاسبة من نفذ الجرائم وحسب – رغم ضرورتها القانونية – بل في إعادة تأسيس الدولة السودانية من الجذر. دولة علمانية، ديمقراطية، متعدّدة، تُبنى على العدالة التاريخية، وتعترف بحقوق القوميات، وتخرج الجيش عن السياسة، وتعيد تعريف السيادة باعتبارها تعاقدًا حرًا بين مكونات الوطن، لا احتكارًا قسريًا تمارسه نخبة على الباقين.
إن مشروع تحالف “تأسيس” ليس مجرد مبادرة سياسية، بل هو استجابة تاريخية لأزمة الدولة السودانية في جوهرها. إنه لحظة مؤسسة، تتجاوز منطق تقاسم السلطة إلى إعادة تعريفها، وتتخطى إدارة التعدد إلى الاعتراف به. ففي مواجهة دولة قتلت مواطنيها بالكيماوي، لا يكون الرد الحقيقي إلا ببناء دولة لا تقتل، دولة تُعيد للإنسان مكانته كمصدر للسيادة، لا كموضوع للإبادة.
إن العدالة، في هذا الأفق، ليست فقط مساءلة القتلة، بل تفكيك الدولة التي شرعنت القتل، وبناء دولة تحمي شعبها بالقانون، لا بالغاز. سودان جديد لا يُقصف أهله لأنهم من الهامش، ولا يُغتال مستقبله لأن نخب المركز خافت من التغيير. سودان يُبنى من رماد المجازر، لا على أنقاض البشر.

النضال مستمر والنصر اكيد.

(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.