حامد عثمان محمد يكتب: المؤسسة العسكرية السودانية بين الانقلاب والاختطاف : ثلاثون عاماً من التخريب المُمنهج
المؤسسة العسكرية السودانية بين الانقلاب والاختطاف : ثلاثون عاماً من التخريب المُمنهج
حامد عثمان محمد
منذ فجر الثلاثين من يونيو عام 1989م، حين نفذت الجبهة الإسلامية القومية انقلابها العسكري على النظام الديمقراطي المنتخب، دخلت المؤسسة العسكرية السودانية نفقاً مظلماً لم تخرج منه حتى اليوم. لم يكن الانقلاب مجرد انتقال للسلطة بوسائل غير مشروعة، بل كان بداية مشروع متكامل لاختطاف المؤسسة العسكرية وتحويلها من مؤسسة وطنية مهمتها حماية الوطن إلى أداة حزبية تخدم مصالح تنظيم عقائدي لا يعترف بالدولة الوطنية ولا بالمؤسسات المدنية.
بدأت الجبهة الإسلامية القومية، بقيادة حسن الترابي ثم عمر البشير، أولى خطواتها بزرع كوادرها داخل القوات المسلحة عبر ما سُمي بـالتمكين، حيث تم فصل مئات الضباط الأكفاء إما بالتقاعد القسري أو بالتشكيك في ولائهم. وتم تعيين أفراد لا يملكون الكفاءة العسكرية، ولكنهم ينتمون تنظيمياً للجبهة، مما أضعف بنيان المؤسسة وضرب روحها الاحترافية في مقتل.
لعل أخطر ما قامت به الجبهة الإسلامية هو نقل مركز الثقل من الجيش إلى جهاز الأمن والمخابرات، ومن ثم إلى ميليشيات موازية كقوات الدفاع الشعبي، ثم قوات الدعم السريع لاحقاً. هذا التهميش المتعمد للجيش أضعف قدرته على أداء مهامه التقليدية، وفتح الباب أمام ظهور قوى عسكرية غير نظامية تنازع الجيش سلطته وتفقد الدولة احتكارها للسلاح.
بدلاً من أن يكون حارساً لحدود الوطن، تحوّل الجيش إلى أداة قمع للشعب. شارك في حروب عبثية داخلية، أبرزها في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، حيث ارتكبت قواته جرائم ترقى إلى جرائم حرب، كل ذلك من أجل حماية نظام البشير وإطالة أمد بقائه. وتحوّل العقيدة القتالية من الدفاع عن الوطن إلى الدفاع عن الحكم.
جاءت ثورة ديسمبر المجيدة 2018/2019 لتضع المؤسسة العسكرية أمام اختبار مصيري: هل تعود إلى صفوف الشعب وتستعيد شرفها المهني، أم تواصل خدمة مشروع الإسلام السياسي؟ وللأسف، ما شهدناه بعد سقوط البشير لم يكن إلا استمراراً للنهج القديم. فقد أدارت القيادة العسكرية المرحلة الانتقالية بمنطق الوصاية، ثم ما لبثت أن انقلبت على الشراكة مع المدنيين في أكتوبر 2021م، مؤكدة أن المرض لم يُستأصل بعد.
إن ما أصاب المؤسسة العسكرية في السودان منذ انقلاب 1989م هو تدمير منظم لبنيتها، وعقيدتها، وسمعتها. ولن يعود لها مجدها إلا بتحريرها من النفوذ الحزبي، وتطهيرها من العقيدة الإقصائية، وإعادة بنائها كمؤسسة وطنية غير مسيسة، تحت سلطة مدنية ديمقراطية. السودان لا يحتاج إلى جيوش تقتل شعبها، بل إلى جيش يحمي حدودها، ويصون كرامتها، ويقف على مسافة واحدة من الجميع.