أحمد ضحية يكتب: كيف ترى النخب المصرية المشهد السوداني
كيف ترى النخب المصرية المشهد السوداني
أحمد ضحية
هوامش على استضافة منصة دكتور عزام لدكتورة أماني الطويل
حرصت على الاستماع لهذا الحوار باهتمام وتركيز شديدين، للتعرف على المستجدات في وجهة النظر المصرية حول المشهد السوداني، من خلال (منصة سودانية)، موجهة بالدرجة الأولى إلى جمهور سوداني، لأرى إن كان هناك ثمة تغيّر في هذه النظرة أم لا. ورُغم أن هذا الحوار لم يجري (على هوى) الكثيرين كما لاحظت خلال بعض ردود الأفعال. إلا أن ذلك لا ينتقص من قيمته، ولا يقدح في المجهود التنويري الملحوظ، الذي ظل دكتور عزام يبذله. ومن هنا التحية له ولضيفته الكريمة.
هناك نقاط عدة وردت في الحوار، اتفق معها ولذلك سأتجاوز مناقشتها هنا. وسأركز فقط على بعض النقاط، التي أرى أنها تستحق المراجعة والنقاش بعقل مفتوح.
مبعث اهتمامي بهذا الحوار يكمن في السعي لاستشفاف مدى رغبة النخب المصرية المتصلة بصناعة القرار (من جهة إدراكها أنها بدعمها لمليشيات الحركة الإسلامية وجيشها الرسمي المسمى بالقوات المسلحة السودانية) أن هذا الدعم لن يؤدي لانتصار لما تظنه جيش وطني، أم لم تدرك ذلك بعد؟.. وهل اقتنعت آخيراً بالتهدئة، وتهيئة المناخ لوقف الحرب أم لم تصل لهذه القناعة بعد؟
وفي الواقع لمست بعض الإجابات الإيجابية على بعض تساؤلاتي الذاتية من خلال ردود دكتورة الطويل، ما فهمت منه أن هناك تطور طفيف في موقف النخب المصرية التي ترى دكتورة أماني الأمور بعيونها. من جهة اقترابها قليلاً من فهم التعقيدات السودانية، على نحو أكبر مما كان عليه الحال، منذ اندلاع الحرب حتى لحظة اجتياح مسيرات الدعم السريع لسماء بورتسودان.
في مقدمة الحوار ذهبت دكتورة الطويل إلى أن (الحسم العسكري) لن يفضي بأطراف الصراع “للحصول على ما خططوا للحصول عليه!”. وهذه نقطة يجب التوقف عندها، لأنها تنطوي على تهديد مبطن : “بأننا (مصر والقوى الإقليمية الأخرى)، لن نسمح لكم بالسيطرة على كل السودان، ربما بجزء من السودان”. وهذا التهديد المبطن هو رسالة للدعم السريع، أكثر من كونه رسالة لنظام الحركة الإسلامية في بورتسودان. وهذا يطرح أن قضية “انفصال دارفور” (وفقا لخطط الحركة الإسلامية وجيشها)، واحدة من الخيارات على طاولة مصر! وقد أكدت دكتورة أماني على هذا “التهديد المبطن” في خواتيم الحوار : “ممكن أن تكون يد الجيش السوداني طويلة في المستقبل القريب”. وقد يؤول البعض ممن استمع إلى حديثها في هذه النقطة فهما مختلفاً عن ما فهمته، وهذا أمر مفهوم ففي التحليل النهائي (السياسة علم ظني!)
لاحظت أيضا أن دكتورة الطويل، حملت النخبة الحاكمة في “الفترة الانتقالية” المسؤولية الأساسية في تدهور ما اسمته “مستويات الفهم لمصر بعد ثورة ديسمبر، وفهم السياسة الإقليمية”. ووصفت هذه النخبة بقصور الفهم! ولم تحدد ما هو مستوى الفهم الذي كانت تريده، أو تتوقعه مصر من هذه النخب؟ هل هو بأداء فروض الولاء والطاعة للنظام المصري والتبعية له، ودعمه دعما غير مشروط على حساب مصالح السودان (في المياه وفي قضية سد النهضة على سبيل المثال؟).
وفي انحياز مصر لجيش الحركة الإسلامية، وصفت دكتورة أماني مبعث هذا الانحياز إلى “نوع من أنواع الكيمياء المتبادلة بين النظام المصري والجيش السوداني”، (وهي كيمياء ليست بحاجة لكبير اجتهاد لفهم نوعها!) في سعيها لتبرير دور مصر في “إجهاض ثورة ديسمبر”، فالدور المصري كان أحد العوامل (ضمن عوامل أخرى) وسعي الدكتورة هنا لاقناعنا بالعكس تدحضه وقائع ما جرى على أرض الواقع. وليس خافياً على أحد من النخب في بلادنا، أن مصر لا تخفي (تاريخياً) انزعاجها من أي تحول مدني ديمقراطي في السودان، وقد ظلت باستمرار تناصب الهبات الجماهيرية، و الفترات الديمقراطية في السودان العداء، بل أن العلاقات السودانية-المصرية لا تشهد ذروة تدهورها، إلا في الفترات الديمقراطية لهذا السبب بالذات!!. بينما تصل ذروة أمجادها، في ظل النظم الانقلابية العسكرية الديكتاتورية (لالتقاء الكيمياء) وساهمت مصر نفسها في صياغة سيناريوهات بعض الانقلابات وسوقت التي نجحت منها للإقليم والعالم!
وبالنسبة لأي مراقب منذ اندلاع هذه الحرب، لا يغيب عنه أن المبادرات والمؤتمرات التي عقدتها مصر لوقف الحرب في السودان (كما ظلت تزعم رسمياً) إنما جاءت في الحقيقة في سياق “اجهاض مبادرات إقليمية ودولية لوقف الحرب!”. وهو أمر بإمكان القاصي والداني رؤيته. وفي كل هذه المبادرات والمؤتمرات، سعت مصر إلى أن تفرض على المشهد السياسي السوداني كجزء من الحل، “واجهات الفلول” التي درج السودانيين على تسميتها بـ (أحزاب التوالي أو الفكة)، رغم علمها أن هذه التكوينات الكرتونية هي جزء من المشكلة وليس الحل، فهم جزء من قوى الانقلاب الذي ساندته مصر نفسها، وأفضى إلى هذه الحرب!! فحتى لو تراجعت مصر الآن بأثر رجعي عن موقفها من مساندة الانقلاب، فان ذلك يوجب عليها إبتداءاً أن تكون هناك صيغة مختلفة، للتعامل مع قوى الانقلاب (التي هي قوى الحرب نفسها!).
والسؤال هنا لماذا تحرص مصر على اعادة القوى الانقلابية إلى المشهد؟ والإجابة بديهية! بالقدر نفسه في الإجابة عن سؤال لماذا فشلت مبادرات ومؤتمرات مصر في احتواء الحرب الراهنة! لأنها في التحليل النهائي (هذه المبادرات والمؤتمرات) ضد قيم وشعارات ثورة ديسمبر في محاربة الفلول والفساد والمفسدين، ولأن هذه المبادرات والمؤتمرات، ليس ضمن همومها إحداث تحول مدني ديمقراطي. وهذا يعني أنها لم تفشل كما زعمت دكتورة أماني بسبب “قصور الفهم السياسي وعدم خبرة النخبة” التي كانت حاكمة في الفترة الانتقالية! وإنما تضافرت عوامل عديدة لإفشالها عمداً! كان دور مصر هو أحد هذه العوامل!
الحقيقة هي أن رهان مصر على النظم العسكرية، والقوى المدنية الموالية لها أمر مفروغ منه، ولا يحتاج لإثبات! إذ تؤكده الوقائع تاريخياً، وخلال الفترة الانتقالية وخلال هذه الحرب! لذلك نسبة أسباب التوتر بين البلدين إلى أطراف أخرى “كالدعاية الإثيوبية” بسبب (قضية سد النهضة) أمر عار من الصحة. وإذا افترضنا أنه لم يكن هناك (سد نهضة) من الأساس، فان ازدهار العلاقات بين السودان ومصر (غالباً) سيظل موسمياً كعادته، وذلك لأن من المستحيل لأي سوداني (وطني فعلاً) أن ينسى أن مصر تحتل جزء من الأراضي السودانية (مثلث حلايب، شلاتين وأبو رماد). فهذه قضية كبيرة ستظل أبد الدهر عبر الأجيال، مصدراً من مصادر التوتر في العلاقات بين البلدين، فالاحتلال على وجه الخصوص، أمر لا يمكن لأي شعب تخطيه، والتعامل على أساس أن شيئاً لم يكن!.. ما أقصده هنا، أن هناك العديد من الأسباب أسهمت في موقف بعض النخب المؤثرة سواء داخل دوائر الحكم الانتقالي في السودان، أو خارج هذه الدوائر من مصر الرسمية. وليس من بين هذه الأسباب “قصور مستويات فهم نخب الحكومة الانتقالية!”. بالعكس كانت الحكومة الانتقالية المنقلب عليها، من أكثر الحكومات التي تعاقبت على السودان، ذات الرؤية الواضحة في علاقات السودان بالجوار الإقليمي والعالم، وموقع مصالح ووحدة شعب السودان في هذه العلاقات، رغم التحديات الأسطورية، التي واجهتها في الملفات الداخلية والخارجية، وتمكنت مع ذلك من تحقيق نجاحات غير مسبوقة في زمن وجيز، رغم العوائق و الاسافين التي ظل يضعها الفلول وحلفائهم الإقليميين والدوليين، هذه هي الحقيقة!
كذلك أجد أن مقارنة دكتورة أماني في حديثها عن “منهجي الهدم والإصلاح”، بأن ما حدث في (الصومال) لم يفضي إلى بناء دولة مؤسسات، ليس مثالاً دقيقا أو مقارنة يعتد بها. فببساطة القوى المدنية الفاعلة في الفترة الانتقالية، تواضعت على (الاتفاق الإطاري) وهو (اتفاق اصلاحي)، وفي هذا السياق نهضت الكثير من الورش، لتقديم إجابات عن ما يجب أن يتم إصلاحه، وكيف يتم إصلاحه، والمدى الزمني لهذا الإصلاح.. فماذا حدث؟
أسهمت مصر في قطع الطريق على منهج الإصلاح هذا، الذي اختطته القوى المدنية الفاعلة، بدورها المؤثر في سيناريو انقلاب ٢٥ أكتوبر، الذي حاولت به استنساخ تجربتها في الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي كما ذكرنا من قبل.
إذا أضفنا العوامل الأخرى التي أهمها رغبة الفلول في العودة إلى السلطة، نجد أن هذا التوجه المصري أسهم بصورة حاسمة في اندلاع هذه الحرب الغاشمة. وهو توجه يؤكد أن مصر لا تزال عاجزة عن فهم طبيعة تعقيدات المشهد السياسي السوداني بشكل كامل، منذ انتفاضة أبريل ١٩٨٥م. وللتدليل على ذلك دعمها وترويجها وتسويقها لانقلاب الحركة الإسلامية في ١٩٨٩م، نتيجة لعدم فهم طبيعة ذلك الانقلاب. رغم أن كثير من القوى السياسية، شخّصته وحددت طبيعته منذ اللحظات الأولى من فجر ٣٠ يونيو ١٩٨٩م. ورغم أن القوى السياسية قبل الانقلاب بشهور كتبت عنه، وسمت قادته بالاسم في مطبوعاتها، سواء كانت مجلة الدستور أو جريدة الهدف البعثيتين، أو صحف الأحزاب الأخرى! ومع ذلك دعمت مصر انقلاب الحركة الإسلامية، وروجت له في الإقليم والعالم، في حملة علاقات عامة، أرخت لها ذاكرة الصحف!
وباسم (نظرية التحول داخل الجيش، وهي نظرية مصرية جديدة)، بمعنى التحول من ضابط (كوز) إلى ضابط (وطني مهني)، تبرر دكتورة الطويل دعم مصر لهذا الجيش. رغم أن هذا الجيش حتى هذه اللحظة، التي نكتب فيها لا يزال خاضعاً للتصورات الأيديولوجية للحركة الإسلامية، ما ينسف تماماً نظرية (الاحتواء المصري له) المستندة على (قاعدة التحول).
أيضاً إلقاء كل اللوم على القوى السياسية السودانية، باستخدامها للجيش، نجد أن هذه أكذوبة شائعة، ومغالطة تاريخيّة! ظلت تروج لها العناصر المحسوبة على الجيش نفسه، وهي شائعة بحاجة للنقاش الجاد، وعلى سبيل المثال لتوضيح هذه الفكرة هنا من زاوية نظر مختلفة (وغير مألوفة)، نجد أن اعتصام الثوار أمام مقر قيادة الجيش، لم يكن في جوهره لنيل تعاطف الجيش، وطلباً لانحيازه للشعب، كما درجت الشعارات في التغني خلال الهبات الجماهيرية في تاريخ السودان المعاصر، بل كان الاعتصام أمام مقر قيادة الجيش، بحد ذاته موقفاً ثورياً ضد هذا (الجيش) فقد أدرك المعتصمون وقتها، على نحوٍ غامض، أن المشكلة ليست في (القصر الجمهوري!).. المشكلة في (القيادة العامة للجيش)، كما كانت دوماً (منذ الاستقلال!).. تلك كانت (لحظة كشف) رغم ضبابيتها خارقة وحاسمة، أشبه بقفزة ديالكتيكية للوعي! رأتها الحركة الإسلامية ورآها قادة الجيش، لكن لم يرها الثوار المعتصمين!
فقد اكتشفت وقتها (قيادة الجيش وحزبها) أن الشعب أخيراً تمكن من (تحديد المشكلة)، التي لطالما سعت جاهدة لاخفائها، بـ(الاختباء خلف الحكومات المدنية والانتقالية)، التي عندما يشعر الجيش باقترابها من (الاستقلالية عن نفوذه) ينقلب عليها! ولذلك ارتكبت قيادة الجيش “مجزرة الاعتصام”، وبنفس النمط الذي ارتكبت به المجازر والابادات في دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق والجنوب وفض معسكرات النازحين في دارفور. نفس السيناريو والتكنيك! والممارسات!
قيادة الجيش فعلت ذلك لأنها أدركت، أنه لأول مرة تُكشف أطماعها في “السلطة والثروة” بهذا الوضوح، وتصبح عارية أمام الثوار، ولذلك شاعت وقتها مقولة أن الثورة جاءت لترفع الجيش “لكن مرمي الله ما بيترفع!”
ظلت قيادة الجيش في كل عهود حكوماتها الانقلابية والانتقالية، على الدوام تختبئ خلف (القوى السياسية)، وجميعها كانت (في الحقيقة) تحكم باسم المدنيين، وكلما حاولت الحكومات الديمقراطية (تغيير المسار) يطيح بها الجيش، ويعيد تصميم المشهد، خلال (حكومة انتقالية)، ثم يأتي بحكومة (يوهم بها الشعب) أنها تعبير عن إرادة شعبية حرة و(رأي عام حر) مثلته نتيجة الانتخابات العامة، التي تعرف على الدوام “بالمخجوجة” أو ما يقابل ذلك للإشارة إلى عدم نزاهتها!
حدث ذلك بانقلاب عبود في نوفمبر ١٩٥٨م، وحدث مرة أخرى بالانقلاب على الحكومة التي تمخضت عن انتفاضة أكتوبر ١٩٦٤م وتكرر بالانقلاب على الحكومة، التي تمخضت عن انتفاضة ابريل١٩٨٥م، ومؤخراً بانقلاب البرهان في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م، الذي حاول فيه استنساخ تجربة الانقلاب على محمد مرسي في مصر، التي اشرنا اليها! وسيناريو تشبث الجيش وميليشياته وواجهاته الانقلابية المستمر بالسلطة، وارهاق البرهان وحلفائه من الجنرالات للمفاوضين في الفترة الانتقالية، بإغراق “قوى الحرية والتغيير” في مفاوضات لا نهائية، كسباً لمزيد من الوقت، لتمكين نفسه وحلفائه! إلى أن انتهى بالسودان إلى حرب ضارية نشهد مأساتها الآن!
مشكلة السودان بشكل رئيسي، تتمثل في (هذا الجيش) بعقيدته الاستبدادية (النهمة للسلطة والتسلط)، وهي عقيدة لم يزرعها فيه “الإسْلاموطائفيين الجدد” في ١٩٨٩م أو نتيجة مشروع “التمكين الإسْلاموطائفي”، الذي تم تطبيقه على (الجيش والشرطة والمخابرات والأمن)، أبداً! في ظني أن هذا الجيش إبتداءاً تأسس على (عقيدة فاسدة) دفعت بعبود في ٥٨ للاستيلاء على السلطة، ودفعت بنميري العقيدة نفسها للاستيلاء على السلطة، والعقيدة نفسها هي التي تبناها “الإسْلاموطائفيين الجدد” فنفذ البشير انقلابهم؛ ليس لأنهم استغلوه لقيادة انقلابهم في ٣٠ يونيو ١٩٨٩م، ولكن لأن فكرة الانقلاب، تطابقت مع المعتقدات العسكرية، التي نشأ عليها ضابط الجيش في الكلية الحربية، ويمكن تتبع هذه العقيدة الفاسدة، في انقلابات الأحزاب السياسية نفسها، التي لا تريد أن تسمح “للتعدد والتنوع” بالتعبير عن نفسه، فالصراع كله حول هذا “التنوع والتعدد”، لأن (قيادة الجيش أو الأحزاب الانقلابية) لن تتمكن من الحفاظ على (امتيازاتها التاريخية)، إلا في ظل (الأحادية الثقافية)، التي تتوهم أنها ثقافتها، وأنها يجب أن تفرضها على كل التنوع السوداني!
بررت دكتورة أماني موقف مصر “العدائي للدعم السريع” والمنحاز لجيش الحركة الإسلامية، بالانتهاكات والجرائم واحتلال بيوت المواطنين، وهذه الحجة مردودة. فحجم انتهاكات وجرائم هذا الجيش (تاريخياً) وخلال هذه الحرب، يفوق حجم انتهاكات وجرائم الدعم السريع، حتى بعد انسحاب الدعم السريع من بيوت المواطنين، ومن الخرطوم بأكملها، ولكن بسبب التواطؤ بالسكوت على جرائم وانتهاكات الجيش في كل حروبه وخلال هذه الحرب، يتم تصوير الجيش كضحية وكمدافع عن السودان والموطنين ومقدراتهم، وهو أمر غير صحيح في الواقع. فهذه دعاية موجودة فقط في المنصات الإعلامية وغرف البروبقندا التابعة لأجهزة الحركة الإسلامية، أو التي تتبع لبعض دول الإقليم.
لذلك هذا مبرر غير كاف لعداء مصر لطرف، خصماً على العلاقة بطرف آخر، والصحيح ان يكون الموقف المصري (إذا أرادت مصر الرسمية دعم وقف الحرب) ينهض على قاعدة ادانة الطرفين، وعدم تضخيم جرائم طرف وتقليل شأن جرائم طرف آخر. فالواقع والوقائع هي الفيصل وليس البروبقندا. والواقع بإحصائياته لا يكذب. كما أن الموقف السوداني العام (ليس لدينا إحصاءات حقيقية، في ظروف طبيعية تسمح لكل المواطنين السودانيين في كل أقاليم السودان بلا استثناء بالتعبير عن رأيهم) بأنهم مع الدعم السريع أو مع جيش الحركة الإسلامية. لكن مبدئياً يمكننا قراءة أن المزاج العام ضد الحرب ويرغب في وقفها، هذا هو الشئ الوحيد المهم والذي يمكن الجزم به!
دكتورة أماني أشارت إلى أن الموقف المصري من الحروب في الجنوب وفي دارفور، كان معارضاً ورافضاً لهذه الحروب، وزعمت أنه أدانها! وهذا غير زعم غير صحيح! ففي الوقت الذي كانت الدورة السنوية للجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدّة (٢٠٠٥) (في ذروة الإبادة في دارفور) منعقدّة في (جنيف)، اجتهدت الدول العربية (بقيادة مصر) في حشد الأصوات، لمنع صدور إدانة لإنتهاكات حقوق الإنسان في السودان. ووقف الجهود؛ من أجل تعيين مقرر خاص، لمرّاقبة الأوضاع هناك.
وبينما أصرّت (الكتلة العربية) على عقد جلسة خاصة، لمناقشةإغتيال الزعيم الإخواني (الشيخ أحمد يس) –وقتها– أحد زعماءحماس (حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية)، فان دولة عربية واحدة (لا مصر ولا غيرها) لم تتحدث عن المذابح والإبادات في دارفور، فضلاً عن إدانتها!
وتصادف أن تشهد المنطقة؛ في ذلك الوقت تسارع الجهود المحمومة لعقد (القمة العربية). ودون أن يستغرب أحد، خلو جدول أعمالها؛ من أية إشارة إلى حقيقة أن (نظاماً “عباسياً”) يعمل بجد على إفناء إحدى المجموعات الإثنية، المكونة لشعبه!
فقد اكتفت مصر و(القادة العرب) بشأن السودان، بالاقتصار على مناقشة “جهود جمع الأموال”، لصالح صندوق “إعمار الجنوب”، لتضمن بعض (الدول العربية القلقة على “مصالحها”) في السودان، قُدرّة نظام الحركة الإسلامية في السودان، على تقديم (الرشاوى) الكافية، لمنع سكان الجنوب؛ من تحبيذ خيار الانفصال، دون أن يُدركوا أن الإنفصال هدف استراتيجي –غير معلن– للحركة الاسلامية الحاكمة منذ ستينيات القرن الماضي؟!
ولم تختلف الصورّة كثيراً، على صعيد المجتمع المدني المصري والعرّبي وقتها، فقد توالت بيانات المنظمات والاتحادات، تُدين بأشد الألفاظ اغتيال (الشيخ أحمد ياسين) ثم أحداث (الفلوجة)، وبعدها خطة (بوش) بشأن (فلسطين). ثم اغتيال (عبد العزيز الرنتيسي). ولم تصدر منهم مجرد إشارّة واحدة، لما يحيق بمئات الآلاف من السودانيين، في إقليم دارفور المنكوب والمغلوب على أمره!
بل سارعت بعض هذه المنظمات، للتطوع بتسمية أحداث الفلوجة: (جرائم إبادة جماعية). واغتيال الإخواني الارهابي الشيخ أحمد يس: (جريمة ضد الإنسانية). وهؤلاء هم أنفسهم من عبروا علناً، عن انزعاجهم قبل عام من ذلك التاريخ (٢٠٠٤)، عندما أسفرت التحقيقات عن كون أحداث (مخيم جنين)، جرائم حرب فقط! وأصروا على أنها (مذبحة). وهؤلاء هم أنفسهم الذين ترتفع عقائرهم بما يجري في غزة الآن، دون ادنى إشارة لما فعلته البراميل المتفجرة، التي استهدف بها طيران الحركة الإسلامية شعب دارفور في هذه الحرب الكارثية!
بل إن بعض (الكتاب العرب)، سارع وقتها، إلى إدانة تهديد كوفي عنان، بتدخل المجتمع الدولي في السودان، لضمان وصول المساعدات الانسانية، لنازحي دارفور! هؤلاء هم ذاتهم، الذين كانوا قد رحبوا بالتدخل الإنساني لحلف (الناتو)، دون تفويض من الأمم المتحدة، لنجدة (ألبان كوسوفو)، الذين قدر عدد ضحاياهم بعشرة آلاف قتيل (أي أقل من عُشر من تمت إبادتهم في دارفور!).
رُبما لأن المذابح والإبادة الجماعية في دارفور وقتها، لم تكن لأسباب عرقية عنصرية وثقافية، بالنسبة لحكومات ونُخب (مصر والعالم العربي)، في نفس الجاذبية الإعلانية، لتطورّات القضايا المركزية؛ بالنسبة إلى العرب كفلسطين والعراق، (مهد الحضارات والانبياء)، و(حواضر إمبراطورية بني العباس عم رسول الإسلام).
كما أنهم في الحقيقة، وجدوا حرجاً من الاعتراف، بأن من يقوم بارتكاب الإبادة في عصرنا الحالي، ينسبون أنفسهم إليهم عرقياً وثقافياً ودينيا! مثلما ينسب (الدواعش الوهابيين) أيضاً أنفسهم للعروبة والإسلام! ومثلما تنسب الحركة الإسلامية (النهر والبحر) نفسها للعباس. غير أن من الواجب تكرار هذه الحقيقة، أن هناك نظام (اسلاموي عروبوي طائفي) يُبيد إحدى مكونات شعبه (الإثنية).
ومع ذلك لم تخرج القمّة العربية وقتها، بشأن دارفور بشئ يدلل، على أن بوجدان الدول العربية، من المحيط إلى الخليج، ذرة واحدة من الإنسانية، التي يتباكى عليها البعض الان! ونفس ردود الفعل العربية، فيما يخص دارفور، هي ردود الفعل العربية فيما يخص جنوب السودان في حربه المديدة التي انتهت بالانفصال، ولذلك قول دكتورة الطويل أن مصر ونخبها ظلوا يدينون حروب السودان، قول مردود بذاكرة الصحف!
ما حدث في دارفور من بعد والجنوب من قبل، كان مزعجاً للعرب، وورطة تاريخية لهم جميعاً! كانوا جميعهم مسؤولون عنه!.. ومع ذلك لم تعبر القمّة العربية وقتها، إلا عن مزيد من التواطؤ ضد السكان غير العرب في دارفور، كما كان متوقعاً تماماً (*). ولعل هذا يفسر الموقف الراهن لبعض الدول العربية من قضية الحرب في السودان، والإبادات التي ارتكبها طيران الفلول في دارفور، ويفسر لماذا لم ترتفع العقائر وتنشط الحركة المكوكية، إلا عندما اقتربت الحرب من الشرق والشمال العباسي!
استشهدت دكتورة الطويل في سياق غامض!! بأن المؤسسة العسكرية في مصر، (سمحت) للإخوان بأن يحكموا لمدة سنة؟!.. للتدليل على “ضعف النخب السودانية”، وعجزها عن احتواء الإسلاميين. رغم أن الشعب بقضه وقضيضه، خرج على هؤلاء الاسلاميين في ثورة مشهودة، احتفى بها كل العالم الحر، عدا العالم العربي! وحقيقةً هنا لا أرغب في مناقشة هذه النقطة الملتبسة، نظراً أن نقاشها الأساسي يعتمد على نقاش الحالة المصرية نفسها. بينما نحن هنا معنيين بمناقشة ما يلي بلادنا فقط، ولا نريد الخوض في طبيعة النظم أو المجتمعات أو القوى المصرية!
كذلك توصيف الشخصية السودانية بأنها (إنتقامية) حصرياً، من بين كل البشر كلام غير دقيق. لان المشاعر عموما سواءً السلبية أو الإيجابية منها هي (غريزية عند البشر عموماً)، وعادة ما تأتي كردود أفعال على أفعال وقعت بالفعل. لذلك أتصور أن اقحام مفاهيم من هذا النوع، لتوصيف الفشل في وقف الحرب حصراً على السودانيين، لا يقف على ساقين! فالترابي نفسه (عراب الحركة الإسلامية) لم ينشأ في بيئة غاب عنها التعليم. وهو نفسه تلقى تعليماً مدنياً أرفع وأرقى من تعليم البنا وسيد قطب وبن لادن، ومع ذلك أنتجت أفكاره وأفكار هؤلاء “تيارات داعشية” تقوم بذبح الأسرى، ونشر عمليات الذبح في وسائل التواصل. هناك كتاب مهم جداً، حول (أصل العنف والدولة، لبيير كلاستر ومارسيل غوشيه، صدر عن دار مدارك في ٢٠١٣) ترجمه علي حرب. أتصور من المهم جدا قراءة هذا الكتاب، لتقريب الفهم حول (علاقة العنف بالدولة وبالدين وبالاقتصاد … إلخ). فالأمر ليس بالتبسيط الذي وصفت به دكتورة أماني العنف في الحالة السودانية حصراً دون كل المجتمعات البشرية.
ما أود قوله هنا أن هذه مسالة نسبية من مجتمع بشري لآخر، حسب طريق تطوره الحضاري. وهذا امر تدخل فيه عناصر كثيرة كالاقتصاد والثقافة والدين والعادات والتقاليد، والقوانين التي تتحكم في الأبنية الاجتماعية بصورة عامة.
—————
#لا _ للحرب
#لازم _ تقيف
—————
(*) أحمد ضحية، أوراق المنفى (١)، دارفور من الصراع القبلي إلى المركزية الاثنية، دار بسمة، المغرب، ٢٠٢٣م .
الراكوبة