د. عبد المنعم همت يكتب : الهجوم على بورتسودان ليس حدثاً معزولاً ولا ضربة دعائية

الهجوم على بورتسودان ليس حدثاً معزولاً ولا ضربة دعائية

 

د.عبد المنعم همت

قوات الدعم السريع واصلت هجماتها على مدينة بورتسودان مستخدمة الطائرات المسيّرة في عمليات عسكرية متتالية استهدفت بها مستودعات، منشآت حيوية، المطار، وأجزاء من الميناء. الهجوم الذي جاء في وقت كانت فيه السلطة الحاكمة في المدينة تروج لصورة الاستقرار، يفتح الباب على أسئلة محرجة تتعلق بقدرة الحكومة على تأمين ما تبقى من جغرافيا البلاد، بل ويضع هذه الحكومة في مواجهة مباشرة مع واقع عسكري لا يحتمل التجميل الإعلامي ولا المناورة الخطابية.

الهجوم ليس حدثاً معزولاً ولا ضربة دعائية فحسب. بل هو رسالة مركّبة في اتجاهات عدة: إلى الداخل الحكومي، إلى حاضنة السلطة في بورتسودان، إلى المكونات المدنية المتحالفة مع الجيش، وإلى المجتمع الإقليمي والدولي. فالدعم السريع، من خلال هذه الهجمات المتقنة، لا تكتفي بفك الضغط عن قواته في الفاشر، بل تسعى بشكل متعمد إلى تحطيم السردية التي حاولت حكومة بورتسودان تثبيتها حول سيطرتها، أمانها، وقدرتها على إدارة دولة. هي ضربة في العمق النفسي، قبل أن تكون ضربة عسكرية.

بورتسودان الآن ليست فقط مدينة تحت التهديد، بل هي رمز لانكشاف كامل لمفهوم “المنطقة الآمنة” في خريطة الحرب السودانية.

ثمة جانب رمزي شديد الأهمية في هذه العمليات. فالطائرات المسيّرة التي حلّقت فوق سماء بورتسودان، لم تسقط فقط شحنات متفجرة، بل أسقطت معها أيضاً وهم الهيبة العسكرية الذي حاولت الحكومة تجميله طوال شهور. لم يعد بإمكان أي وزير أو قائد عسكري أن يقف في مؤتمر صحفي ويتحدث عن “العمق الآمن”. ولا يمكن الآن لحملة العلاقات العامة التي تدار من بورتسودان أن تستمر في ترديد عبارات “بسط هيبة الدولة” بينما تسقط المسيّرات فوق المستودعات والمطار.

ما يحدث في بورتسودان لا يمكن عزله عن السياق العام لحرب الاستنزاف الطويلة التي تخوضها قوات الدعم السريع. فهو جزء من إستراتيجية “تشتيت مراكز الضغط”، واللعب على نقاط الضعف الجغرافية والنفسية في جسم الحكومة الهش. الدعم السريع تدرك أن السيطرة على الخرطوم لا تكفي، وأن معارك المدن الكبيرة ليست فقط بالأسلحة الثقيلة، بل بالإشارات الموجعة التي تفقد الخصم توازنه. وبورتسودان الآن، وقد تحوّلت من “العاصمة البديلة” إلى نقطة ضعف إستراتيجية، باتت تعاني من حالة ارتباك يصعب إخفاؤها.

الضربة التي استهدفت المطار على وجه التحديد، لم تكن عبثية، بل محسوبة بدقة. فالمطار هو شريان الربط الخارجي والداخلي الوحيد تقريباً، وتهديده يعادل تهديدا كاملا لمنظومة الاتصال بالحلفاء الدوليين والمنظمات الإنسانية. والميناء، بوصفه آخر نقطة حيوية للتجارة والسلع، يصبح تحت التهديد المباشر، ما ينعكس فوراً على الواقع المعيشي في المدينة. ارتفاع الأسعار، شحّ المواد الغذائية، قلق السكان، وتضخم شعور الخوف من فقدان الأمان؛ كلها معطيات كفيلة بتأجيج المزاج الشعبي، وإعادة طرح أسئلة فقدان الثقة في السلطة.

الجديد هنا، أن الدعم السريع تبعث برسالة مفادها أنها لا تستهدف المدنيين، وأن ضرباتها موجّهة بعناية إلى أهداف عسكرية وإستراتيجية، وهذا – سواء صدقناه أم لا – يدخل ضمن خطاب بناء صورة “الطرف المسؤول” القادر على إيذاء الدولة دون إيذاء المجتمع. بينما الحكومة، على الجانب الآخر، تبدو في وضع دفاعي لا يُحسد عليه، إذ لم تُظهر أي قدرة فعالة على صدّ الهجمات، ولم تقدم خطاباً عقلانياً يعترف بالمشكلة دون أن يهوّن من خطورتها.

في ظل هذه التطورات، يصبح مجرد التفكير في نقل مقر الحكومة من بورتسودان إلى مدينة أخرى، بمثابة إعلان هزيمة معنوية أمام الدعم السريع. لأن ما يتسرّب إلى وعي الناس ليس مجرد الانتقال الجغرافي، بل معنى هذا الانتقال: اعتراف بالعجز، وهروب من الاستهداف، وانكشاف للخطاب الرسمي. هذا النوع من التحولات النفسية في مشاعر المواطنين تجاه السلطة أخطر بكثير من خسارة مطار أو منشأة. إنه كسر في الثقة، وتفكيك بطيء للتحالفات، وانفضاض تدريجي للحاضنة الاجتماعية عن فكرة الحكومة ككيان ضامن.

إذا استمر الدعم السريع في هذا النسق من الهجمات المتدرجة، دون رد عسكري حاسم، فإن الحكومة ستجد نفسها أمام مفترق طرق حرج

ومع استمرار الهجمات، يتعمق الارتباك داخل أروقة السلطة. فالقرار السياسي يصبح مرتبكا، والخيارات الأمنية تزداد ضيقاً، والتحالفات التي تم بناؤها على أساس الجغرافيا الآمنة تبدأ بالتفكك. لا شيء يوحّد سلطة مفككة ومطاردة ومضغوطة سوى الوهم المشترك بالخلاص. لكن هذا الوهم يتبخر حين يعلو أزيز المسيّرات في سماء المدينة. وفي ظل هذا الضغط، يصبح من المتوقع أن تبدأ التصدعات في جسم التحالف السياسي – العسكري في بورتسودان، سواء بصيغة انسحابات خفية، أو صراعات داخلية، أو إعادة تموضع على أساس المصالح الذاتية.

كل ذلك يصب في مصلحة قوات الدعم السريع، التي لا تحتاج إلى السيطرة على بورتسودان ميدانياً بقدر ما تحتاج إلى تحييدها نفسيا وسياسيا. إن جعل المدينة غير آمنة، وغير قابلة للحياة السياسية، كفيل بإضعاف مركز القرار الحكومي، ودفعه نحو المزيد من الأخطاء. إنها لعبة أعصاب بامتياز، يعرف فيها الطرف المهاجم أن الحرب الحديثة لا تُحسم بالقنابل فقط، بل بالإرباك، وإحداث الفوضى، وتعميق الشكوك.

إن ما كشفته هذه الهجمات أن الحكومة التي احتمت ببورتسودان ليست سوى مظلة فارغة لمشروع سياسي متآكل. فالحماية لا تُفرض بالتصريحات، والسيطرة لا تُثبت بالبيانات الصحفية. القوة، في سياق مثل هذا، لا تعني امتلاك السلاح فقط، بل تعني القدرة على الصمود، والتحكم، والتخطيط، واستباق الأحداث. وكل هذه الصفات لا تظهر في أداء السلطة الحالية، التي تبدو مشلولة، تلهث خلف ردود الأفعال، وتدير الأزمة بمزيج من الإنكار والخوف.

بورتسودان الآن ليست فقط مدينة تحت التهديد، بل هي رمز لانكشاف كامل لمفهوم “المنطقة الآمنة” في خريطة الحرب السودانية. وإذا استمر الدعم السريع في هذا النسق من الهجمات المتدرجة، دون رد عسكري حاسم، فإن الحكومة ستجد نفسها أمام مفترق طرق حرج: إما إعادة النظر في كامل إستراتيجيتها، بما في ذلك موقعها، وخطابها، وتحالفاتها، أو الانزلاق نحو المزيد من التآكل البطيء، الذي قد لا يُحدث ضجيجاً، لكنه يقتلها بالإنهاك اليومي، وفقدان المعنى، وتآكل الشرعية.

العرب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.