محمد هاشم محمد يكتب: مالك عقار 36 سنة إجرام … وسؤال القانون الغائب!

مالك عقار 36 سنة إجرام… وسؤال القانون الغائب!

✍️ محمد هاشم محمد الحسن.

في سياق مضطرب وحالة من السيولة التي تشهدها  بلادنا، تبرز تصريحات قد تبدو للوهلة الأولى مجرد ثرثرة عابرة، لكنها في الحقيقة تحمل دلالات أعمق وأكثر خطورة على بنية الدولة ومفهوم العدالة. من بين هذه التصريحات، ما نُقل عن مالك عقار، أحد أبرز الوجوه القيادية في الحركات المتمردة، وحالياً نائب رئيس مجلس السيادة، حين سُئل عن مصير المجرمين في بلده، ليجيب بسخرية وواقعية مرة (لا يقبضوه أصلاً… أنا مجرم 36 سنة ما في زول قبضني).

هذه العبارة، رغم بساطتها، ليست مجرد اعتراف بالجرم، بل هي صفعة مدوية على وجه مفهوم سيادة القانون، وتأكيد على وجود خلل بنيوي عميق في منظومة العدالة. إنها تكشف بوضوح عن حقيقة مؤلمة، وهي أن القانون، في بعض السياقات، يصبح أداة طيعة تُستخدم ضد فئة دون أخرى، بينما يُمنح المجرمون الحقيقيون صكوك غفران غير معلنة لمواصلة مسيرتهم الإجرامية دون خوف أو رادع. ولعل الأشد إثارة للاشمئزاز، وأبلغ في التعبير عن حالة التدهور، هو ذلك التصفيق الحار الذي قوبل به حديث مالك عقار، تصفيقٌ لا يعكس سوى انتكاس للمفاهيم، واحتفاءً غريباً بتعطيل القانون، وكأن جريمةً تُعلن على الملأ دون خوف باتت مدعاة للفخر، وليست ناقوس خطر يهدد كيان الدولة.

الحديث عن (36 سنة إجرام) دون مساءلة، لا يقتصر على شخص مالك عقار بحد ذاته، خاصة وأنه يحتل الآن موقعاً رفيعاً في هرم السلطة كـ(الرجل الثاني في الدولة)، بل يجسد ظاهرة أوسع نطاقاً وأكثر فتكاً بالمجتمعات. فالمجرم في بلادنا فعلاً لا يُسأل، لا لضعفه، بل لأنه ببساطة قد جلس على سدة الحكم وأصبح الأمر الناهي.

المطلوبون للجنائية الدولية يتمتعون بكامل الصلاحيات، فيُشعلون الحروب ويفتكون بمقدرات البلاد، بينما يلاحق القانون بقسوة قيادات مدنية كالدكتور حمدوك ومن سار على دربه، تلك القوى التي وقفت ضد الحرب وسعت إلى إحلال السلام. وللأسف الشديد، تتجلى هذه المفارقة الساخرة بوضوح في حالات مثل كيكل، الذي عاث فساداً في الجزيرة وكان السبب الأساسي في الانتهاكات المروعة التي وقعت على مواطنيها، ليُعاد بعدها إلى حضن الدولة ويُشَبّه بخالد بن الوليد! هذا المشهد الصادم لا يؤكد فقط غياب القانون، بل يرسخ فكرة أن الجرم قد يكون تذكرة عبور نحو النفوذ، وأن سجل الإجرام قد يتحول إلى وسام شرف.

إن هذه الحالة من الحصانة التي يتمتع بها المجرمون المعترفون بجرائمهم، في الوقت الذي يواجه فيه الأنقياء والمواطنون الملتزمون بالقانون، للقمع والملاحقة، تُحدث شرخاً عميقاً في النسيج الاجتماعي. تهزّ الثقة في المؤسسات، وتُرسخ قناعة لدى العامة بأن العدالة مجرد شعار أجوف، يُرفع فقط حينما تقتضي مصالح القوى المتنفذة لذلك. عندما يعترف شخص بكونه مجرم 36 سنة دون أن تطاله يد القانون، ثم يصل إلى أعلى المناصب في الدولة، فهذا ليس دليلاً على قوة المجرم، بل على ضعف وهشاشة النظام القانوني الذي يدّعي حماية المجتمع.

والأدهى من ذلك، أن القانون في بلادنا لم يعد يُطبق على الجميع بسواسية، بل أصبح يُفصّل على مقاس (الوجوه الغريبة)؛ يُنفذ على المواطنين حسب سحناتهم ومناطقهم التي ينتمون إليها ولون بشرتهم.
فبينما يتنعم من يُفترض أنهم مطلوبون للعدالة بالحرية وربما بالسلطة والنفوذ، يتم إلقاء القبض على محامٍ يمارس مهنته النبيلة، محامٍ سعى للدفاع عن حقوق أعضاء قوى تقدم سابقاً وصمود حالياً، لمجرد قيامه بواجبه المهني. إن هذا التمييز الفج الذي يتخطى مبادئ العدالة الأساسية، ويُحول القانون إلى أداة للتعصب والاضطهاد، يعكس انهياراً أخلاقياً وقانونياً يفوق كل تصور، ويجعل من حديث مالك عقار ليس مجرد سخرية، بل واقعاً مُعاشاً ومريراً.

إن ما نُشاهده اليوم لا يقتصر على فساد في تطبيق القانون، بل هو مؤشر خطير على تآكل شرعية الدولة ذاتها وهشاشة عقدها الاجتماعي مع مواطنيها. فحين يصبح الميزان مختلاً لهذه الدرجة، وحين تُفقد الثقة في أن الدولة قادرة أو راغبة في حماية مواطنيها الأنقياء ومحاسبة مجرميها الفعليين، فإن الأساس الذي تُبنى عليه أي دولة حديثة يتصدع. هذا الإفلات الممنهج من العقاب لا يولد اليأس فحسب، بل يزرع بذور الكراهية والانتقام، ويُمزق النسيج الاجتماعي، ويُرسخ قناعة بأن القوة هي القانون الوحيد، مما يدفع البلاد  هوة أعمق من الفوضى والصراع الأبدي ويجعلها تفقد كل مقوماتها كدولة.

إن تصريح مالك عقار، بهذا الوضوح وهذه الجرأة، ينبغي أن يكون جرس إنذار للمسؤولين والمجتمعات. فالسماح للمجرمين بالتحرك بحرية، وحتى بالتبجح بجرائمهم، ثم بالوصول إلى مواقع النفوذ، يعني أن هناك فجوة هائلة بين ما ينبغي أن يكون عليه القانون، وما هو عليه في الواقع. إعادة الاعتبار لسيادة القانون، وتطبيقه بعدالة وشفافية على الجميع دون استثناء، هي الخطوة الأولى والأساسية نحو بناء مجتمع مستقر وآمن، مجتمع لا يكون فيه (36 سنة إجرام) مدعاة للافتخار، بل حافزاً لملاحقة العدالة واستعادة هيبة الدولة.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.