إبراهيم برسي يكتب .. بين الدين والرأسمالية : كيف تَصنع الأنظمة القمعية “المَاعِز الأليف”؟
بين الدين والرأسمالية : كيف تَصنع الأنظمة القمعية “المَاعِز الأليف”؟
إبراهيم برسي
في عالم تُمارَس فيه الهيمنة ليس فقط عبر العنف المباشر ، بل من خلال تشكيل الوعي ذاته ، يصبح السؤال الأساسي : كيف تُنتج الأنظمة القمعية الطاعة ، ليس فقط كحالة مفروضة بالقوة ، بل كشيء يُستبطن في النفوس؟ .
إن الطاغية لا يُولد ، بل يُصنع ، كما أن الجماهير لا تُقمع ، بل تُروّض. في فضاء الهيمنة ، لا تُفرض السيطرة بالحديد والنار فحسب ، بل عبر منظومة سرديات تتسلل إلى الوعي ، تعيد تشكيل الإدراك ، وتحكم تصور الذات في علاقتها بالسلطة. ليست المسألة ، إذن ، مجرد قمع مباشر ، بل هندسة للخضوع ، حيث لا يكتفي النظام بفرض الطاعة ، بل يعمل على جعلها جزءًا من بنية التفكير ، بحيث يبدو التمرد عبثًا ، والخضوع ضرورة.
وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الكائن الذي لا يحتاج إلى سياط الجلاد كي يركع ، بل يركع طوعًا ، ويدافع عن قيوده باعتبارها أمانًا ، ويرى في الطغيان قدرًا لا مفر منه.
هذه الصناعة لا تتم من فراغ ، بل عبر منظومة متكاملة من الأدوات التي تعمل على قولبة الإنسان منذ طفولته. ومن بين هذه الأدوات يأتي الدين ، حين يتحول من تجربة روحية إلى أداة ضبط تُعيد إنتاج الطاعة ، وتقدمها كفضيلة مطلقة.
فالمواطن المُطيع ليس مجرد شخص يخضع لسلطة الأمر الواقع ، بل هو كائن تم تشكيله بحيث لا يرى في نفسه سوى انعكاس لما يُملى عليه ، عاجز عن التخيّل خارج حدود السرديات المفروضة عليه.
وليست هذه الحالة طبيعية ، بل يتم إنتاجها عبر خطاب ديني يُقدّم الطاعة كمبدأ مطلق ، حيث يُعاد تفسير النصوص الدينية لتُنتج إنسانًا خاضعًا ، يرى في أي محاولة للخروج عن النظام القائم تمردًا على “الإرادة الإلهية”.
وهكذا ، لا يعود الدين وسيلة للتحرر الروحي ، بل يتحول إلى قيد يُكبّل الفرد ، حيث يتم غرس فكرة أن “كل سلطة هي من عندالله”، وأن مواجهة الظلم قد تعني الوقوع في الفتنة ، وكأن العبودية أكثر أمانًا من الحرية! .
وليس هذا بالأمر الجديد ؛ فقد دعمت الكنيسة الكاثوليكية طغيان الملوك بوصفهم “ظل الله على الأرض”، كما استُخدمت فتاوى الطاعة في بعض البلدان الإسلامية لترسيخ مقولة أن الحاكم لا يُسأل عما يفعل ، مما جعل التمرد يبدو كفرًا ، والخضوع ضربًا من التقوى.
وهكذا ، يصبح الظلم مشيئة إلهية ، ويُعاد تأويل الاستبداد كاختبار للصبر ، لا كحالة يجب تفكيكها. وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الفرد الذي يرى في الطغيان مشيئة إلهية ، وفي الفقر امتحانًا ، وفي الجوع نعمة ، وفي الحرية خطرًا على الاستقرار! .
لكن الأمر لا يتوقف عند التوظيف الديني فقط ، بل يمتد ليشمل بُعدًا نفسيًا أكثر تعقيدًا ، حيث يصبح الطغيان ذاته مصدرًا للراحة.
يذكر إريك فروم ، في كتابه الخوف من الحرية ، أن كثيرين يهربون من الحرية، لا لأنهم يحبون الطغيان ، بل لأن الحرية نفسها مخيفة ؛ إنها مسؤولية، عبء ثقيل يتطلب قدرة على اتخاذ القرار ومواجهة العواقب.
وهكذا ، يُصبح الفرد الذي يخضع باسم الدين ليس مجرد ضحية ، بل شريكًا في استدامة النظام الذي يقهره. حينها، لا يحتاج النظام القمعي إلى استخدام العنف المفرط ، فالجمهور نفسه يصبح حارسًا للقمع ، يراقب نفسه بنفسه ، ويفرض على الآخرين ذات القيود التي كُبّل بها.
وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الكائن الذي يخاف من الحرية أكثر مما يخاف من سجّانه! .
وبينما تعمل الأنظمة القمعية على تكييف الدين ليناسب أهدافها ، فإن الرأسمالية تُكمل هذا الدور من زاوية أخرى ، حيث لا تُشكّل فقط نظامًا اقتصاديًا ، بل تتحول إلى ماكينة ضخمة لإنتاج الوعي المشوّه ، وخلق إنسان يرى نفسه في حدود ما يستهلكه.
مارك فيشر ، في كتابه الواقعية الرأسمالية ، يشير إلى أن أحد أخطر أشكال الهيمنة هو جعل أي بديل غير قابل للتخيّل ؛ حيث يُقدَّم النظام القائم وكأنه “الطبيعة الثانية” ، وكأن أي محاولة للخروج منه ليست فقط مستحيلة ، بل غير منطقية.
في هذه الحالة ، يتحول الإنسان إلى مستهلك سلبي ، لا يرى في نفسه سوى رقم في معادلة العرض والطلب ، فاقدًا للقدرة على التفكير في ذاته كفاعل سياسي ، وكشخص يمكن أن يُعيد تشكيل الواقع.
يُختزل وجوده إلى كونه ترسًا في ماكينة الإنتاج والاستهلاك ، يقيس نجاحه بعدد الأشياء التي يمتلكها ، لا بقدرته على التأثير في مجتمعه. وهكذا يصبح التسوق شكلًا من أشكال الحرية الزائفة ، ويتحول الدين إلى سلعة ، والهوية إلى ماركة ، والفكر إلى إعلان تجاري.
وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الفرد الذي يرى في التسوق حرية، وفي تراكم الديون طموحًا ، وفي نجاحه الفردي تعويضًا عن فشل مجتمعه بأكمله! .
ولأن هذه السيطرة لا يمكن أن تُترك للصدفة ، فإن النظام يحتاج إلى آليات مؤسسية لترسيخها ، وأبرزها التعليم والإعلام.
فمنذ الطفولة ، يُقال للطفل : “الكبير لا يُناقش”، وحين يكبر ، يتعلم أن “الحاكم لا يُسأل عما يفعل”. وهكذا ، يتحول الخضوع إلى قيمة متوارثة ، يُنقل من جيل إلى جيل ، حتى يصبح جزءًا من النسيج الاجتماعي نفسه.
أما الإعلام ، فإنه لا يُعنى بإيصال الحقيقة ، بل بإنتاج الحقيقة ، أو بالأحرى ، إنتاج نسخة واحدة منها ، نسخة تخدم القائمين على السلطة.
يصبح الإعلام سلاحًا ، لا لقمع المعارضين فحسب ، بل لمنع إمكانية تخيّل عالم مختلف. يتحول إلى آلة دعائية تعمل على تطبيع الظلم ، وإعادة إنتاجه في صورة قدر لا يُرد ، أو “واقع لا يمكن تغييره”.
وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف” ، الكائن الذي يستهلك الأخبار كما يستهلك البضائع ، يصدق كل ما يُقال له ، ويردد الخطاب الرسمي وكأنه وحي! .
إن إدراك العطب هو الخطوة الأولى في مقاومته ، إذ أن النظام لا يسقط عندما يشتد قمعه ، بل عندما يُسائل الناس شرعيته.
وكما قال فرانز فانون : “كل جيل يجب أن يكتشف مهمته ، إما أن ينجزها أو يخونها”.
غير أن المقاومة لا تبدأ فقط من التمرد المسلح أو المواجهة المباشرة ، بل من تفكيك منظومة الهيمنة في الفكر والسلوك ، من مساءلة الخطابات التي تجعل الطاعة تبدو طبيعية ، من إعادة تعريف الممكن ، من فهم أن ما يبدو ثابتًا ليس إلا توافقًا مؤقتًا بين القوة والخضوع.
إن أخطر ما في الهيمنة ليس فقط أنها تقمع ، بل أنها تجعلنا نحب قيودنا ، نخاف من فقدانها ، نرى في الطاعة خلاصًا من قلق الحرية.
لكن “الماعز الأليف” ليس قدرًا محتومًا، بل خيار يمكن كسره ، شرط أن نجرؤ على إعادة اختراع ذواتنا من جديد! .