كضاب و نساي!! و في رواية: (برهان)

منذ فجر تاريخ البشر على الأرض ، منذ سيادة العشيرة ، فالبطن ، فالقبيلة ، ظل المؤهل الأول و الجوهر و الأعظم للزعامة هو فضيلة الصدق.
للدكتور فرانسيس دينق كتابات يوثق فيها لثقافات قبائل جنوب السودان ، يلحظ المطلع عليها اشتراك جميع القبائل، عند اختيار زعاماتها ، في جعل الصدق في القول هو المؤهل الأساسي للزعامة ، الذي تتوارى خلفه جميع شروط الزعامة من شجاعة و إقدام و حكمة ، ذلك أن جميع القيم الإنسانية العليا تتأسس أولا على الصدق ، فإن انتفى انتفت ، لن تجد أبدا رجلاً شجاعاً و كذابا في ذات الوقت ، وقل ذلك عن كل فضيلة. بل إن الرجل الكذوب ، حتى و إن لم يتطلع للزعامة ، يكون في القبيلة محتقرا ، لا يندب لمهمة و لا يرجى لمكرمة ، و يعامل معاملة الدواب.
و ما أشار إليه د. فرانسيس دينق من تقاليد قبائل الجنوب في اختيار زعمائها يكاد يطابق تقاليد جميع قبائل السودان المعتبرة ، بل في الحقيقة جميع قبائل البشر أسوياء الفطرة.
الكذب الصريح و الوقح الذي يألفه اليوم المجتمع السوداني في (زعاماته) المفروضة فرضاً ، بقوة السلاح ، قيادات الجيش خصوصاً ، كان يكفي – حتى عهد سيادة القبيلة ، و قبل أن تنشأ “الدولة” – كان يكفي ليس فقط لنفي زعامة الزعيم ، بل حتى لنفي “رجولة” الرجل.. و في تراث (الحكامات) ضمن ثقافات قبائل غرب السودان ، يكفي أن تسجل “الحكامة” على شخص أنه كذب ، حتى يترك أرض القبيلة و يتوارى عن الأنظار خجلاً من سوء ما وصف به!!..
تعالوا الآن ننظر إلى “تاريخ” الصدق عند الشخص الذي يفرض نفسه اليوم رمزاً لسيادة السودان ، و يطالب العالم بأن يعترف برئاسته..
و لنبدأ برصد عينة عشوائية من كذباته الصريحة و الضمنية منذ مذبحة القيادة العامة التي تم فيها قتل المئات و اغتصاب عشرات الفتيات و فظائع أخرى سجلتها كاميراتهم ، في ساحة تطل عليها نوافذ مكتب البرهان ، الذي كان يمثل السلطة الأعلى في الدولة ، كرئيس للمجلس العسكري الحاكم..
البرهان الذي كان يراقب المجزرة ، و الذي أمر جنده بإغلاق بوابات القيادة العامة في وجوه المعتصمين الذين أرادوا الاحتماء بدار جيشهم الذي ظنوا أنه حاميهم.. البرهان الذي أمر شركات الاتصالات بقطع خدمة الانترنت و خدمة الهاتف لحوالي أسبوع بعد الجريمة ، أصبح صباح الفاجعة لينفي علمه أو مسؤوليته عما جرى.. ثم أمر بتكوين (لجنة تحقيق) !!..
ثم تم نسيان الأمر تماماً.. ليخرج البرهان بعد أربع سنين ، و بعد “خراب” ما بينه و بين حميدتي الذي كان نائباً له حتى ١٥ أبريل ٢٠٢٣ ، خرج ليقول أن الذي ارتكب جريمة “فض الاعتصام” هو حميدتي!!!.. هذه إن لم تكن مجرد كذبة رجل جبان فإنها أسوأ كثيراً من ذلك!!.. بل الأكرم لرجل في موقعه أن يكون كاذباً فيها من أن يكون صادقاً ، لأن الصدق الذي يجيء بعد فوات أوانه و بدافع التشفي و الانتقام أحط لكرامة صاحبه من الكذب!!..
لنطالع كذبة أخرى ، تقع ضمن نطاق المقولة الشعبية المبجلة: (كضاب و نساي)!!..
حين تم ترويج كذبة (وفاة حميدتي) كان حين يطلب من البرهان – من بعض وسطاء السلام – لقاء الفريق حميدتي ، كان يتساءل (كيف ألاقي رجلاً ميتاً؟).. وهي المقولة التي صدرت عنه بأكثر من صيغة ، تصريحا و تلميحا. و لكن الرجل استشاط غضبا على الدكتور حمدوك و تنسيقية تقدم ، حين التقوا بحميدتي و اتهمهم بالخيانة.. مع أنه لو كان صادقا مع نفسه أولا لما رأى مشكلة في أن يجتمع حمدوك برجل ميت!!
فالرجل إما أنه يكذب – ضمن مئات الكاذبين – في تأكيد رواية وفاة حميدتي ، أو إنه يكذب في مأخذه على حمدوك لقاء حميدتي ، ما يعني أنه يؤكد حياة حميدتي ، و لم يعتذر عن أي من الأمرين!!!..
و من أكاذيبه الوقحة المرصودة ، (كما أشار الأستاذ محمد لطيف في أحد تحليلاته السياسية لراهن الحرب) محاولاته الفاشلة في نفي الحقيقة المستعصية على النفي ، حقيقة أن مبتدأ الحرب كان الهجوم على قوات الدعم السريع بالمدينة الرياضية صباح الخامس عشر من ابريل ، فقد لجأ إلى الزعم بأن الحرب بدأت في الثالث عشر من أبريل بذهاب قوات الدعم السريع إلى مروي ، و لكن إحساسه العميق بأن هذه الكذبة لا تفي بالغرض ، حمله إلى نفيها بكذبة أخرى ، منطوقها أن الحرب بدأها حميدتي بمهاجمة معسكر الباقير في الرابع عشر من ابريل.. ثم بدا له مرة أخرى أن هذه الكذبة بدورها عصية على البلع ، فابتدع كذبة ثالثة (منقحة) مفادها أن مبتدأ الحرب بالأساس محاولة انقلابية تم التخطيط لها باكراً بين حميدتي و بين قوى الحرية و التغيير ، صباح الخامس عشر من ابريل ، و واضح لكل ذي عقل أن الروايات الثلاث تتنافى فيما بينها ، و تنتفي جميعاً أمام حقيقة انطلاق الحرب من المدينة الرياضية ، بل تؤكدها.
هذه نماذج عشوائية فقط ، من أكاذيب الرجل الذي يؤكد أنه رئيس البلاد ، فأي عار منيت به هذه البلاد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.