طبول الكيزان و عصيُّهم

علي يس

قبل حوالي مائة عام، أنجز الكاتب الإنجليزي الغامض، المثير للفضول ، جورج أورويل ، روايته (مزرعة الحيوان)..
و مع أنه لم يكن في ذلك الزمان “كيزان” ، إلا إن المحيِّر حقاً أن أورويل قد قدم في تلك الرواية وصفاً مبهراً ، بالغ الدقة ، للكيزان كما عرفهم أهل السودان بعد مائة عام، مع اختلاف بالغ التفاهة ، هو أنه سمَّى كيزان مزرعته آنذاك “الخنازير” !!.. لقد كان ذلك الرجل متنبِّئاً عظيماً (و سيدرك ذلك كل من قرأ روايته الثانية “1984” و التي يكاد يصرِّح فيها بأنه يتحدث عن جهاز أمن البشير/قوش)!!..
ما يعنينا هنا أكثر هو مزرعة الحيوان ، باعتبارها “مخزناً” لطرائق و أساليب الكيزان في خوض معتركات السياسة و الحياة، فملخص الرواية هو أنّ الحيوانات ، في مزرعة أحد الأثرياء ، قامت، تحت قيادة الخنازير، بـ”ثورة” مهيبة ، تمكنت خلالها من طرد صاحب المزرعة و كل معاونيه من البشر ، و أعلنت تحرير المزرعة لصالح الحيوانات ، التي تمكنت الخنازير من خداعها فكسبت ثقتها و تشكلت الحكومة كلها من الخنازير فقط ، التي كانت أثناء و بعد الثورة قد تمكنت من تأليف عدد من الشعارات ووضعها على ألسن الحيوانات ، لترددها عند كل مناسبة ، شعاراتٍ كثيرة ، كلها تتحدث عن “مشروعها الحضاري” و عن سوء طباع البشر و نبل أخلاق الحيوانات، من قبيل ( four legs’ good. Tow legs’ bad) و ما أشبه ذلك من شعارات مغنّاة ..و لكن أول من تنكر لتلك الشعارات كانت هي الخنازير نفسها، بعد أن توطدت لها أسباب الحكم ، فبعد أن كانت في جميع خطبها الثورية تحذر الحيوانات من تقليد سلوك البشر الأشرار، حتى إنها وضعت “قانون طوارئ” يعاقب بموجبه كل حيوان يقبض عليه متلبساً بإحدى طبائع البشر ، كأن ينام على سرير مثلاً أو يجلس على كرسي، فقد راح أعضاء حكومة الخنازير يتنعمون بكل ما وجدوه في المزرعة من رفاهيات البشر ، و في ذات الوقت يحذرون الحيوانات من (الاقتراب أو التصوير) ، فقد كانت تصرفات الخنازير – كأعضاء حكومة مسؤولة – تتم تحت ستارٍ غليظ من السرية.كان مجرد اطلاع حيوان من الحيوانات على شيء و لو ضئيل من أسرار الطبقة الخنزيرية الحاكمة كفيلاً بتحريض كلاب المزرعة على تمزيقه إرباً (الكلاب كانت بمثابة الحرس الرئاسي للخنازير).. و مثلما فعل الكيزان بعد مائة سنة ، تمكنت الخنازير من تقسيم شعبها ثلاث شُعَب: شُعبة العِصِيِّ، و شُعبة الطبول ، و شُعبة “المارقين الخونة!!..
شُعبة الطبول ، التي كانت تمثلها عامة الحيوانات المخدوعة ، كانت – كما تفعل الطبول دائماً – ترنُّ و تزمجر بهتافات الخنازير و شعاراتها ، فإن سكتت عن الهتاف و لو لبرهة استجمام، كانت تسلَّطُ العِصي عليها ، شأن العصي مع الطبول عبر الأزمنة.. كانت الكلاب بمثابة العصي التي تحرِّض الطبول على الأنين و الرنين، و لكن بجانب ضرب الطبول كانت العصي، أعني الكلاب ، مكلفة بمطاردة و القضاء على الفئة الثالثة من الشعب ، الخونة و المارقين..
كانت إحدى مفاخر الحيوانات إبَّان ثورتها ، هي أنها لا تعرف الكذب ، كما يفعل البشر ، و لكن سرعان ما أدمنت طبقة الخنازير الحاكمة الكذب ، بعد أن تنعمت بالاستلقاء على الأسرة ذات الفُرُش السميكة الناعمة ، أو الجلوس على الكراسي الفخيمة ، أو التمتع بأطعمة البشر البائدين ، التي كان في المزرعة قسط منها ، سرعان ما عرفت الخنازير كيف تحصل عليها ، بعد أن وطَّدت علاقاتها مع بعض البشر خارج المزرعة (و هو الفعل الذي كان يُعتبر خيانة عُظمى إذا ارتكبه أي حيوان يتم إعدامه. و لكن الخنازير و الكيزان استثناء بالطبع !!!…
ظل يحيرني هذا التشابه الغريب، منذ أن قرأت رواية أورويل للمرة الأولى و الأخيرة ، قبل بضع و ثلاثين سنة، المحير أكثر هو أنه لا توجد إلا فرضيتان لتفسير هذا التشابه المذهل ؛ الفرضية الأولى هي ما أسلفنا ، من كون أورويل متنبئا خطيراً. أما الفرضية الأخرى فهي أن يكون الكيزان قد قرأوا – باكراً جداً – روايتي أورويل (مزرعة الحيوان) و (١٩٨٤) ، ثم قاموا بتطبيقهما حرفياً!!!…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.