البرهان و”البصيرة” .. إشتباه النقيضين!!

لو سألتُك عن وجه الشبه بين النور و بين الظلام ، ستقول لي ، بداهةً : ليس بينهما وجه شبه !!.. سأقول لك حينها إن وجه الشبه بينهما أنّ كلاًّ منهما ينفي الآخر، هو وجه شبه بين كل نقيضين على أية حال..
أمّا المتناقضين من البشر ، فإنّ أوجُه شبه عديدة قد تجمع بينهم ، و لكنها تؤكد في الوقت ذاته تناقضهم ؛ فالرجُلُ الخيِّرُ يتصدق بماله ، فيضاعفه الله له أضعافاً كثيرة ، و الرجل الشِّرِّير يتصدق بماله فيمحق الله صدقته كأن لم تكن ، لأنه يشفعها بالرياء و المنِّ و الأذى. (سُقتُ هذا المثال فقط لتوضيح الشبه بين البرهان و بين المرأة الحكيمة “البصيرة أم حمد”)..
و لأن من طبعنا الغالب ، كسودانيين، التسرَّع في الحُكم على الناس و الأحداث، و لأنه تسهُل “سُواقتنا بالخلا” فقد جعلنا البصيرة أم حمد هدفاً لسخريتنا ، لجهلنا بحيثيات حُكمها الشهير، و الحكمة الكامنة وراء أمرها بذبح العجل و كسر الزير، و رفعنا لهذا الجهل ضروري حتى نفهم الفرق بين البصيرة و بين البرهان ..
ما ظللنا نجهله جميعاً عن حيثيات حُكم البصيرة ، يتجلَّى حين نعلم أنّ البصيرة أم حمد كانت أشهر حكماء قريتها و القرى المجاورة ، و في تلك القرية المتواضعة ، التي يكسبُ أهلها الفقراء عيشهم كدَّاً ، و لا يذوقون اللحم إلا في العيد ، كان يسكُنُ رجُلٌ ثريٌّ و شديد البُخل.
هو الوحيد في القرية الذي يملك قطيعاً كبيراً من الأبقار، و لكنّه لشدّة بُخله يقتِّرُ على نفسه و أهل بيته ، و يُصاب بالرُّعب إذا اضطُر لشراء نعال لأحد أبنائه. كان في بيته “زيرٌ” وحيد يخافُ عليه الكسر حتى لا يُضطر إلى شراء زير غيره، فامتحنهُ الله حين انطلق أحد العجول من حظيرة أبقاره و أدخل رأسه في الزير، فاشتبك قرناه الصغيران بجدار الزير فلم يستطع أخراج رأسه .. ملأ الخوف من انكسار الزير قلب الرجل ، فحاول هُو و أهل بيته إخراج رأس العجل من الزير و لكن بلا طائل، فجلس يفكِّر في حل للمعضلة حتى تذكّر البصيرة أم حمد ، فنادى أولاده و أمرهم بأن يذهبوا بالعجل و الزير إلى البصيرة ، و أمرهم أن يفعلوا ما تشير به البصيرة ، فقد كان شديد الثقة بحكمتها. ذهب الأولادُ إلى البصيرة و معهم عجلهم ، و حكوا لها المعضلة و أنَّ أباهم يخاف انكسار الزير ، فتبسَّمت البصيرة حين عنَّت لها فكرة أن تذيق أهل قريتها البسطاء لحماً طريَّاً حُرموا منه سنين عددا، فأمرت أبناء الرجل البخيل بذبح العجل ، فتردّدوا قليلاً ، ثم تذكروا أمر أبيهم بطاعة البصيرة في ما تأمر به ، فذبحُوا العجل، ثُم سألوها عن كيفية إخراج رأس العجل من الزير فأمرتهُم ، نكاية في أبيهم البخيل ، بكسر الزير، ففعلوا.
حين عاد أبناءُ البخيل إليه برأس العجل و حُطام الزير ، جُنَّ الرجُل و خلع ملابسه و خرج إلى طرقات القرية عارياً ، يجري و يهتف : بل بس .. بل بس ..
أمَّا البُرهان ، فلم يكُن يعنيه الحِرمان الذي يعانيه الشعب السوداني من اللحم ، و لم يفكِّر ، حين جاءهُ الكيزان بعجلهم الذي أدخل رأسه في زيرهم الوحيد ، لم يفكر في إطعام رعاياهُ لحماً طرياً ، بل حاول بقدر ما أوتي من ذكاءٍ و حِكمة أن يحل مشكلة الكيزان ، محاولاً تقليد البصيرة في بصارتها ، فأوصى بذبح العجل ، فلما بقيت المشكلة قائمة أوصى بكسر الزير..
و طبعاً .. جرى للكيزان الذين فقدوا عجلهم و زيرهم ، ما جرى للرجل البخيل ، صاحب البصيرة ، فخرجوا عراةً يجرون في الطرقات هاتفين : بل بس.. بل بس..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.