بقدر ما تنطبق صفة (العبثية) على حرب السودان ، فإنها تنطبق بذات القدر على المواقف و التفاعلات الإقليمية و الدولية تجاهها. و لعل أبرز نماذج هذه العبثية يتمثل في الموقف الإيراني تجاه هذه الحرب (ولا تبعد كثيراً مواقف دول و محاور عالمية أخرى عن عبثية التفاعل ، مثل الموقف الأمريكي و موقف الاتحاد الأوروبي و موقف الغريمين روسيا و أوكرانيا ، و لكن سأركز هنا على الموقف الإيراني لغرابة التناقضات المحيطة به ، من ناحية ، و لارتباطاته و تقاطعاته و (تناظراته) مع مواقف الدول و المحاور المذكورة أعلاه.
حين تم إكراه البشير (و إغراؤه) على قطع علاقات نظامه مع إيران ، كانت أداة ذلك الإكراه وذلك الإغراء معا هي المال.. و كان أحد أقوى شروط الدعم المالي لحكومة البشير هو مشاركته في حرب اليمن ضد الحوثيين (المشاركة التي تعني في حقيقتها تحدياً عسكرياً لإيران ، حليفة الأمس!!..).
كانت المشاركة في حرب اليمن – و لا تزال حتى اليوم – تتم تحت راية الجيش السوداني ، و لم تكن قوات الدعم السريع تشارك في تلك الحرب إلا باعتبارها مكونا من مكونات الجيش السوداني.
و لما كانت إيران تعلم يقينا ما يعلمه الجميع ، من أن نظام البرهان امتداد طبيعي لنظام البشير ، فإن قبولها إمداد البرهان بالسلاح يستحيل أن يتم إلا في سياق اشتراطات و تنازلات كبيرة ، يصعب جدآ أن يعلنها البرهان ، أدناها سحب القوات السودانية المشاركة في عاصفة الحزم ، و من بينها بالتأكيد إفساح الساحل السوداني على البحر الأحمر لقاعدة عسكرية إيرانية ، و هو الأمر الذي لا يمكن أن يسمح به الأمريكان و إسرائيل ما لم يكن مسنودا بشراكة روسية (و يذكر الجميع أن البشير كان قد استجدى روسيا استجداء حتى تنشئ قاعدة لها على البحر الأحمر كجزء من خطوات حمايته -حماية البشير – من الأمريكان ، و لم يرفض بوتين الطلب حينها) ، و مؤكد أن الأمر ما يزال مغريا للروس ، و ربما يكون الأمر – في ظل الحلف الروسي/ الإيراني المتطور – سانحة للتعاون بين الحليفين في إنشاء قاعدة بحرية مشتركة تكون بلا شك شوكة في خاصرة أمريكا.
و لكن ، من جهة أخرى ، سيكون موقف إسرائيل محلا للتساؤل ، اذا ما استحضرنا هرولة البرهان بعيد ثورة ديسمبر مباشرة إلى العاصمة الأوغندية للقاء نتنياهو ، و تقديم فروض الاعتذار و الطاعة له ، ركوعا عند عتبات التطبيع ، الذي كان من شروطه غير المعلنة اعتبار حماس منظمة إرهابية ، و اعتبار إيران دولة مارقة و مزعزعة للاستقرار ، و إخضاع الصناعات العسكرية السودانية للرقابة الاسرائيلية المباشرة (و هو ما يبرر زيارة وفد من جهاز الموساد لمواقع التصنيع الحربي بالسودان بعد فترة قصيرة من لقاء البرهان/نتنياهو.)
كيف إذن يكون موقف إسرائيل من استقدام إيران إلى البحر الأحمر ؟. و هل يرتبط موقف إسرائيل بالموقف الأمريكي الذي لا يخلو من ضبابية مقصودة ؟.
الموقف الأمريكي من حرب السودان لا يمكن فهمه إلا في سياق (الفوضى الخلاقة) ، و هو ذات موقف أمريكا من الثورة السودانية ، حيث ظل الخطاب الأمريكي المعلن يساند الحكم المدني الديمقراطي ، بينما ظل خطاب الكواليس و الإجراءات العملية تؤازر حكم العسكر ، و أولو الأبصار يذكرون جيداً أن انقلاب أكتوبر على الحكم المدني تم بإيعاز مباشر من المبعوث الأمريكي الذي لم يستقل طائرته مغادرا الخرطوم إلا بعد أن اطمأن إلى أن فجر تلك الليلة سيشهد انقلابا عسكريا يلقي بحمدوك و حكومته في السجون.
مؤكد أن الموقف الأمريكي تجاه تسلل إيران إلى البحر الأحمر لن يكون محايداً ، و لكن المؤكد أيضاً أنه لن يكون بالصورة التي يتوقعها (المراقبون) ، فثمة كواليس ، رغم كل شيء ، يمكن أن تجمع أمريكا و إيران على صفقة ما ، توفر للفوضى الخلاقة الأمريكية مسارح تأثيرها التقليدية ، و توفر أيضاً لإيران مجالا لابتدار فوضاها الخاصة.