• بعض ما أسهم في تكوين “جيلنا” – سنوات التكوين الأولى – معرفياً و ثقافياً ، و ربّما عاطفياً و فكرياً ، طائفة من الروايات البوليسية ، المكتوبة بحذقٍ ، و المترجمة بأيدي مترجمين أدباء مجيدين . روايات أمثال “اللص الشريف” إرسين لوبين، و اللص الآخر الذي لا يقلُّ شرفاً ، سيمون تمبلار، الملقب “بالقِدِّيس” ، فضلاً عن روايات شرلوك هولمز ، و قريناتٍ لها ، كلها تقريباً مترجمة عن الفرنسية أو الإنجليزية.
• فبالإضافة إلى الحبك الجيد و السرد الممتع (بالنسبة إلى صبية بين التاسعة و الخامسة عشرة) تضمنت تلك الروايات البوليسية طائفة من الرسائل البنَّاءة ، ربما كان أهمّها بثُّ التقدير و المحبّة لأخلاق (الفروسية) حتى و لو توفّرت في (لص)، فجعلتهُ يسرق من الأغنياء المترفين ليعطي الفقراء المعدمين، و هو ذات التقدير الذي حملناهُ لاحقاً ، لطائفة من فوارس صعاليك العرب ، أمثال الشّنفرى و عروة بن الورد و “تأبّطَ شرَّاً”, ثم ، و ربما بقدر أكبر ، للهمباتة ، الضاربين في عُمق ثقافتنا ، كما عبر عنهم رجالٌ منهم (كالطيب ود ضحويّة) ، و (طه الضرير) ، الذين كانُوا ، رغم كونهم “نهّابين لأموال غيرهم” ، مخالفين ثوابت الشرائع و القوانين ، كانوا مشبّعين بأخلاق الفرسان ، التي حكت عنها الكثير من مواقفهم ، فقد كان شائعاً عنهم ، مثلاً ، أنّهم لا ينهبون إبل راعٍ أعزل ، و لا يسوقون إلاّ إبل من يرونهُ كفؤاً لهم ، جناناً و سلاحاً ، و كانُوا ، فوق ذلك ، أسخياء بما ينهبونه “حُمرة عين” على الفقراء و المساكين و “النساء”..، تشهد بذلك أشعارهم التي طبَّقت الآفاق.
• في زمان ما بعد “الكورونا” هذا، تذكّرتُ الهمباتة ، و اللصوص الشرفاء، حين حملت الأنباء طرائف ، لا أظنّها مختلقة ، عن مواقف (عصابات) عالمية معروفة ، كالمافيا ، في إيطاليا ، و عصابات تجار المخدرات في بعض دول أمريكا اللاتينية ، و من تلك الأخبار، ما شاع ، أيام الكورونا، عن تبرُّع إحدى عصابات المافيا الإيطالية بمبالغ ضخمة ، دعماً للدولة لمواجهة الجائحة ، و ما رشَحَ أيضاً عن إسهام بعض عصابات تجار المخدرات في البرازيل ، إسهامهم الفاعل في “تنظيم” حظر التجوال، بعد أن اتهموا الدولة بالتراخي في إنفاذ الحظر ، تراخياً يهدد صحة “المواطنين”!!..
• و مع ذلك ، فإن عصابات المافيا في إيطاليا ما تزال مطلوبة للعدالة أمام سلطات الدولة و قضائها ، حتى بعد تبرعهم السخي ، و ما تزال عصابات المخدرات في البرازيل هدفاً للشرطة و للقضاء ، حتى بعد أن ساعدوا الشرطة في إنفاذ حظر التجوال.
• ثمّ تذكّرتُ ، بكثير من الأسف ، أنّنا – و بعد أن مضى عصر الهمباتة الفرسان الشرفاء، ثم عصر الكورونا – لم يعُد عندنا لصوص و لا عصابات نفخر بها ، أو نستطيع أن نكنّ لها بعض الاحترام..
• بل إننا – دون العالمين جميعاً – ابتلينا بعصابة من أكثر لصوص الأرض دناءة و جُبناً و بُعداً عن أخلاق الفرسان، عصابة حكمتنا بقوّة السلاح ردحاً من الزمان ، و حين انتفض عليها الشعب الأبيّ، واجهته ، وهو أعزل لا يملك سوى لسان يردد (سلمية) ، واجهته بأحدث الأسلحة النارية ، و ظلّ هذا السلوك الجبان ديدنها حتى مع الأطفال و النساء (كما حدث في سبتمبر 2013 ، ثم ديسمبر 2018).. عصابة يرتجف “أرجل” من فيها مِن هتاف طفلٍ ، فيجندله برصاصة ، أو صرخة امرأة ، فيرشقها بمدفع ..
• و لهذا ، فقد أخذني العجب كلّ مأخذ ، حين رأيت بعض إخواننا يتوقّع أن تتصرَّف عصابة الكيزان كما تتصرّف العصابات المحترمة ، كالمافيا و تجار المخدرات (مع أن الكيزان تاجروا في المخدرات أيضاً و بالحاويات و عبر موانئ الدولة التي سيطروا عليها ، و لكنهم كانوا أجبن من أن يعلنوها) .. أخذني العجب ممن يتوقع من أمثال هؤلاء أن يتمتعوا بشيءٍ من أخلاق الرجال ، دع عنك أخلاق الفرسان..
كانت الدهشة قد ألجمتني يوم أنشئت (لجنة إزالة التمكين) تحت بصر و سمع (لجنة البشير الأمنية) فافترضت يومها أن اتفاقا غير معلن قد تم بين جنرالات المجلس العسكري و بين جماعة قوى الحرية و التغيير، مؤداه أن يسمح الأولون بإنشاء لجنة إزالة التمكين، بشرط أن يتم استثناء أولئك الجنرالات و ممتلكاتهم و شركاتهم من”فحص” اللجنة.. و تصورت أن اللجنة قد رضيت مرغمة و لسان حالها: (شيء خير من لا شيء) .. فاللص الذي بيده بندقية يستحيل أن يتنازل عن شيء من مسروقاته للجنة ليس بيدها “سكين بصل”!!..
و لكن كشف انقلاب 25 أكتوبر أن الجنرالات كانوا يريدونها مسرحية يشغلون بها الناس عما يدبرون ، ليس فقط من إعادة ما أخذته اللجنة إلى اللصوص ، و لكن أيضا إعادة ما انتزعته الثورة من سلطة غاشمة مطلقة.. ثم لما تنبه أحد جنرالات الإنقلاب إلى سوء ما يدبر اللصوص ، و حاول إفشاله ، لجأ اللصوص إلى الحيلة ، و حاولوا إغراءه بنصيب من مسروقات الثروة و السلطة ، فلما أبى.. كانت الحرب خيار من لا يملك غيرها خيارا!!!..