د. عبد المنعم همت يكتب: وطن يغرق و د.كامل إدريس يصنع قاربًا من الكلام

وطن يغرق و د.كامل إدريس يصنع قاربًا من الكلام

 

د. عبد المنعم همت

في لحظة وطنية بالغة السواد، حين تغرق المدن في الدم، وتُقتلع القرى من الأرض كما تُقتلع الأعشاب اليابسة، خرج علينا الدكتور كامل إدريس بما يشبه “رسالة طمأنينة من كوكب آخر”. خطاب نظيف جدًا، ناعم جدًا، حتى ليكاد يعتذر من القتلة لفرط أدبه. يتقدّم الرجل كمَن يحمل قاربًا من الكلمات وسط طوفان من الجثث، وكأن الأزمة السودانية مجرد خلاف في جدول أعمال مؤتمر دولي.

الخطاب يمثل محاولة نشطة لتغبيش الوعي. فبدلاً من تشخيص الأزمة، قدّم وصفة بلاغية بلا مكونات. تحدّث عن “حكومة الأمل”، لكنه لم يقل لنا من قتل هذا الوطن؟ من سرق الجراح أولًا؟ من صبّ الملح عليها لاحقًا؟ ومن يواصل اليوم تمويل الخراب باسم “الشرعية” أو “الواجب الوطني”؟

إنه خطاب مشغول بترتيب الكلمات أكثر من ترتيب الأولويات. أشبه ما يكون بمحاضرة في أدبيات الإدارة الانتقالية ألقيت في صالة مكيفة بجنيف، لا بيان من رئيس وزراء يتصدّى لحريق شامل. لا خارطة طريق، لا خطة زمنية، لا أدوات تنفيذ، لا موقف من المليشيات، لا حتى اسم واضح للعدو. فقط وعودٌ كأنها منقولة من أوراق الأمم المتحدة القديمة عن “السلام المستدام”، كأننا لا نعيش حربًا، بل نشهد خللًا في منظومة القيم.

أسوأ ما في الخطاب، أنه يتعامل مع الحرب كحدث عرضي، لا كمأساة مستمرة. لم يطرح إدريس أي تصور لإيقافها، لا عبر تفاوض، ولا عبر مبادرة، ولا حتى عبر إعلان نوايا. لم يحدّد طرفًا واحدًا مسؤولًا عن الدماء. لم يقل لنا هل سيجلس مع القتلة أم معهم ومع ضحاياهم في قاعة واحدة؟ لا معايير، لا ضمانات، لا خطوط حمراء. وكأن الدم السوداني بلا كرامة، وكأن الجثث يمكن تجاوزها بـ”عبارات جامعة”.

الأدهى، أن الخطاب يطفو على بحيرة من التناقضات. فبينما يروّج للسلام، يتغاضى عن تعدد الجيوش والولاءات والسلاح العابر للحدود. لا حديث عن المليشيات، ولا عن شبكات تمويلها، ولا عن القوى الإقليمية التي تحرّكها كقطع شطرنج. هل سيدمجها؟ هل سيحلها؟ هل يعرف عددها؟ أسئلة صمت عنها إدريس ربما لأنه يعرف جيدًا أن بعض من يصفقون له اليوم، هم من يصرفون الرواتب لتلك المليشيات.

تغافل إدريس عن معنى العدالة، بل بدا وكأنه يعيد تدوير مبدأ “العفو مقابل الاستقرار” الذي دمّر السودان سابقًا. فليس في خطابه أي إشارة صريحة لمحاسبة من ارتكب الجرائم، أو من شرّد الملايين. بالعكس، هو يروّج لخطاب طيّ الصفحة دون قراءتها. يضع الجلاد والضحية على الطاولة نفسها، ويسمّي ذلك “وحدة وطنية”. لكن الوطن لا يُبنى فوق المقابر دون عدالة، ولا يستقيم فوق رماد القرى المحروقة دون مساءلة.

وحين نبحث عن ملامح الدولة التي يتحدث عنها، نصاب بالحيرة. هل ستكون الدولة فيدرالية أم مركزية؟ علمانية أم ذات مرجعية دينية؟ مدنية بحق أم مسقوفة بالعسكر؟ لا نعلم. لم يقل. لم يحدّد حتى من الذي سيحاسب حكومته، أو من فوّضه أصلًا لقيادة المشهد. هل لديه برلمان؟ قاعدة شعبية؟ لجنة انتخابية؟ أم أن “الأمل” وحده بات صكّ تفويض جديد؟

أما ما سُمّي بـ”دبلوماسية السلام”، فهي تعبير هشّ لا يليق إلا بمحاضر علاقات دولية في جامعة مهجورة. لا موقف من مصر أو إثيوبيا أو الخليج أو الغرب. لا ذكر لصراع الموانئ، ولا التنافس على الذهب واليورانيوم. هل هذا تغافل؟ أم سياسة مقصودة تقوم على ترك الأبواب مشرعة، حتى ولو دخل منها الذئب؟

الخطاب أيضًا يشير إلى رغبة واضحة في التنصّل من الواقع، لا الانخراط فيه. رجل قادم من المؤسسات الدولية يتحدّث كأنه محايد، كأنه لم يعرف السودان إلا من تقارير الوكالات. لكنه لم يأت من فراغ. لقد خاض انتخابات في عهد النظام البائد، وظهر في مناسبات رسمية مع رموزه. سعى حينها لمنح النظام شرعية لا لنزعها. واليوم، يطلّ علينا من ذات الباب، نظيفًا من كل دم، ويدعو إلى الامل دون أي خجل من التاريخ.

إن خطاب كامل إدريس ليس أكثر من محاولة لإعادة طلاء الجدار ذاته بلون جديد. طلاءٌ فخم، لكن تحته الشقوق تتسع. السودان لا يحتاج لمن يبيعنا لغة مطهّرة من المسؤولية، بل من يسمي الأشياء بأسمائها: من قتل؟ من دمّر؟ من حرّض؟ من موّل؟ من صمت؟ ومن يريد اليوم أن يقفز من السفينة التي أغرقها ليتقمص دور المنقذ؟

إن أخطر ما يُنتجه هذا النوع من الخطاب المضلل، ليس مجرد تغافل عن الوقائع، بل تشويش الوعي الجمعي للسودانيين، وإعادة تشكيل الإدراك العام بطريقة تخدع الناس وتدفعهم إلى التعايش مع الألم وكأنه قدَر لا جريمة. فهو ينكر المأساة و يعيد تأطيرها بلغة ناعمة تُربك الضحية، وتمنح الجلاد فرصة جديدة للتخفي. حين يُختزل الخراب في تعبيرات دبلوماسية، وتُطمس المسؤوليات تحت شعارات المصالحة، يُعاد إنتاج الأزمة بأدوات جديدة، ويُهيأ للمواطن أن الحلّ قادم على يد من كان يومًا جزءًا من أسباب الانهيار. هكذا يتحول الخطاب من وسيلة وعي إلى أداة تخدير، ومن منبر للحق إلى منصة لتبييض الباطل.

السودان اليوم لا يحتاج إلى شاعرٍ سياسي،ولكن نحتاج إلى قائدٍ أخلاقي. لا يحتاج إلى من “يتوازن” في حضرة الجريمة، بل إلى من يصرخ بالحقيقة حتى لو احترقت أوراقه. فالكلام المموه في زمن القتل خيانة. والحياد في زمن الذبح تواطؤ. والمصالحة بلا مساءلة، مجرد غطاء جديد لذات الخراب القديم.

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.