عبد المنعم سليمان يكتب : وجيشٌ كان قديمًا جيشًا… حقيقة (المثلث) والهزيمة وحفتر!

وجيشٌ كان قديمًا جيشًا… حقيقة (المثلث) والهزيمة وحفتر!

 

عبد المنعم سليمان

 

في مشهدٍ أصبح مألوفًا منذ اليوم الأول لحرب الكيزان على السودان، أعلنت قوات الدعم السريع، أمس، سيطرتها على منطقة “المثلث”، تلك البقعة الاستراتيجية التي تتاخم دولتي ليبيا ومصر من خاصرة السودان الممزقة. إثر هذا الإعلان، سارع الجيش إلى بث بيانٍ لا يشي بشيء سوى الهزيمة والفقد، مدّعيًا أن انسحابه من المنطقة جاء “في إطار ترتيبات عسكرية دفاعية”.

 

وهي عبارة زلقة ومخادعة، تُذكّرنا بـ”العطل الفني”، تلك العبارة التي باتت مرادفًا لسقوط الطائرات الحربية، وكأن القاعدة في الطائرات هي السقوط لا الطيران، وكأنها “لواري” متهالكة، لا طائرات مقاتلة لها نظيراتها في جيوش العالم. لم نسمع يومًا بعطلٍ أصابها فأرداها، وجعلها هشيمًا تذروه الرياح!

 

لكن الأخطر من الهزيمة نفسها هو التذرّع بها؛ فبعد أن انكشفت العورة، اتجهت أصابع الاتهام خارج الحدود، إلى ليبيا، إلى حفتر، إلى المجهول الذي يصلح شماعةً لكل سقوط. فالجيش، في عجلة تبرير الهزيمة والانكسار، أعاد سرد حادثةٍ وقعت قبل معركة الدعم السريع بيومين، حين توغّل مهرّبون – هم في حقيقتهم ما يُسمى بـ”القوات المشتركة” التي تقاتل إلى جانبهم، وقد سبق أن قاتلوا كمرتزقة في ليبيا وعادوا منها يحملون خريطة الفوضى – توغلوا إلى الداخل الليبي، حيث اشتبكوا مع كتيبة “سبل السلام” الليبية المكلّفة بحماية الحدود، فقتلوا وأفسدوا، قبل أن تطردهم القوة الليبية وتعلن ضبط تشكيلات عابرة للحدود، تعمل على تهريب الأسلحة والوقود والسلع من ليبيا إلى داخل السودان.

 

وهكذا، اختلط التهريب بالمواجهة، والنهب المسلح والتهريب بالمعركة، حتى بات التبرير سابقًا على الحدث، وكأنما الهزيمة نفسها قد تم التخطيط لها سلفًا، على مذبح الرواية العسكرية!

 

لكن مهلًا، هل كان هناك جيش سوداني في المثلث أصلًا؟ الواقع يقول إن المنطقة تخضع فعليًا لنفوذ قواتٍ هجينة من حركات المهربين والمرتزقة، أبرزها حركة مني أركو مناوي، التي تتعامل مع تلك الجغرافيا كمصدرٍ للجباية والابتزاز، وكمعبرٍ للتهريب المنظم: من البشر إلى الذهب، ومن الوقود والغذاء إلى السلاح.

 

فمن المخزي أن يُعلن الجيش انسحابه من منطقةٍ لا يملك فيها موطئ قدم، ومن العار أن نجد جيشًا يُفترض أنه وطني، مهمته حماية حدود البلاد وصون سيادتها، يكذب على شعبه ويبرر انسحابه بترتيباتٍ وهمية من أرضٍ لا يتواجد فيها أصلًا! بل إن الحقيقة المُرّة أن هذا الجيش لا وجود له في أي منطقة حدودية أخرى، إلا على الورق، وداخل بياناته الكاذبة الجوفاء.

 

الحقيقة المؤلمة التي يعلمها الجميع، ولا يجاهر بها إلا القلة، هي أن هذا الجيش، الذي يقوده عبد الفتاح البرهان، ليس في جوهره سوى أطلال جيش، يعيش على أمجاد وسيرة جيش، فيما هو في الواقع فصيلٌ سياسيٌّ مسلح، مقنع ببزّةٍ عسكرية. لقد جرى تفكيكه خلال ثلاثين عامًا من حكم الإسلاميين، فلم يَعُد جيشًا بالمعنى الوطني، بل حزبًا يضع الخوذة على رأسه ويحمل البندقية باسم (الكرامة)؛ وهي مفردة أُفرغت من معناها، وباتت تعني تحويل السودان كله إلى كرامة في سبيل عودتهم إلى السلطة من جديد.

 

فانقلب، على نحوٍ مؤسف وموجع، إلى جيش لا يصارع من أجل السيادة، بل من أجل إعادة إنتاج مشروعٍ إسلاميٍّ إجراميٍّ مخلوع!

 

والأكثر إيلامًا ووجعًا، أن كتائب الجيش وكتائب الإسلاميين الدعائية، عمدت منذ فقدان المثلث إلى إطلاق تعريف جديد عليه: (منطقة المثلث بين السودان ومصر وليبيا)، في محاولة حقيرة لزرع لبسٍ جغرافيٍّ يُمهّد لاستدرار العطف من القاهرة. بل بلغ بهم الانحدار أن استنجدوا بمصر، زاجين باسمها في معركةٍ تدور داخل حدودٍ سودانيةٍ خالصة، ليُصوّروا ما جرى على أنه تهديد للأمن القومي المصري، علّه يفضي إلى تدخلٍ مرتجى. وكأن أمن السودان لا يُبكى عليه، بينما أمن الجار أولى بالبكاء! أي مهانة هذه، وأي ذلٍّ ذاك؟!

 

لقد قلناها مرارًا، ونكرّرها الآن: لا نصر ينتظر هذا الجيش وهو يقاتل تحت راية “الكيزان”، ولو حارب مئة عام. هؤلاء الذين جرّوا البلاد إلى الخراب، باسم الدين حينًا، وباسم الوطنية حينًا آخر.

لن تُحسم هذه الحرب لصالحه ما دامت بندقيته موجهة نحو المدن والقرى، لا نحو جذر الأزمة ومصدرها. وإن كان هذا الجيش صادقًا في رغبته باستعادة دوره الوطني، فعليه أولًا أن يتحرر من قبضة الإسلاميين، وأن يصوب نيرانه إلى من مزقوا الوطن ونهبوه واستباحوا دماءه.

 

عندها فقط، لن يجد خصومة من أحد، بل سيجد سندًا حتى من خصومه اليوم، وعلى رأسهم قوات الدعم السريع. أما الاستمرار في هذا العبث، فلن يورث إلا تكرار الهزائم، وتعاظم الخزي، واتساع دائرة الانهيار

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.