منعم سليمان يكتب: كامل إدريس… سجدة يهوذا!
كامل إدريس… سجدة يهوذا!
منعم سليمان
سجدة كامل إدريس أمام سُلَّم الطائرة التي أقلّته إلى بورتسودان، وتقبيله للأرض التي لم يكن محرومًا من وطئها، تثيران من الأسئلة أكثر مما توحيان بالولاء. فالرجل لم يُمنع يومًا من دخول السودان، بل دأب على زيارته عند كل انقلاب وآخر، عارضًا نفسه خيارًا للسلطة الجديدة، وكان آخر ظهور له عقب الانقلاب العسكري على الشعب في 15 أبريل 2023.
لكن تلك السجدة لم تكن تعبيرًا عن حبٍّ للوطن قدر ما كانت بادرة ظاهرها الود، وباطنها يخفي خيانة مكتملة الأركان؛ إذ لا يمكن فصل هذا المشهد عن رمزيته العميقة : لقد كانت قبلة يهوذا الإسخريوطي على خدّ سيدنا المسيح، تلك التي خلّدها التاريخ كرمزٍ للخيانة، والجشع، والانحدار الأخلاقي.
إن تقبيل الأرض، في هذا السياق، لا يُقرأ بوصفه فعلَ إخلاص، بل كمشهدٍ مسرحيٍّ مفرطٍ في التمثيل، يُراد به تلطيف حضورٍ سياسي باهت، وتزيين دورٍ وُظِّف في لحظة خيانة للشعب والثورة والوطن، وتكريس لانقلاب أعاد البلاد إلى قبضة العسكر وفلول الكيزان!
إن تعيين الدكتور كامل إدريس في منصب رئيس وزراء سلطة الأمر الواقع في بورتسودان ليس سوى قشرةٍ توضع على وجه الانقلاب لتجميله. فالرجل يفتقر إلى أي تجربة أو خبرة سياسية سابقة تؤهله للتعامل مع هذا المنعطف التاريخي الحرج، ولا يحمل شرعية ثورية، كما لا يستند إلى أي دعم شعبي يُذكر.
إنه، ببساطة، واجهة مدنية زائفة، أُريد بها تلميع صورة البرهان والكيزان، بينما تبقى السلطة الفعلية في قبضة العسكر وشركائهم من الإسلاميين.
واختياره في حدِّ ذاته لم يكن عشوائيًا، بل مقصودًا بعناية: شخصية باهتة وفاسدة، بلا لون سياسي، بلا موقف مبدئي، مجرد توقيع ناعم على عقد إذعان جديد يُراد تمريره باسم الانتقال الديمقراطي”، في حين أنه لا يعدو أكثر من كونه إعادة ترميم لانقلاب عسكري مغلّف بإجراءات زائفة!
ما يُحاك اليوم في بورتسودان ليس مشروعًا سياسيًا، بل مسرحية عبثية مملّة، تُخرَج بوقاحة فاضحة، ويُراد لها أن تُسوَّق للعالم على أنها استئناف للمسار الديمقراطي، دون أن يجيب أحد منهم عن السؤال الجوهري: من الذي أوقف هذا المسار أصلًا حتى يُستأنف الآن؟
أخطر وأقذر ما في المشهد أن هذا السيناريو يُنفَّذ تحت غطاءٍ أفريقي، بتواطؤ بعض الأنظمة القمعية المعادية للديمقراطية، والتي لا تُخفي انحيازها الصريح للعسكر. وتشارك في هذا التواطؤ أيضًا شخصيات أفريقية، على رأسها محمود علي يوسف، رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، الذي أصبح دوره أقرب إلى الناطق الرسمي باسم الثورة المضادة.
هؤلاء لا يسعون إلى إنقاذ السودان، بل يعملون بجدٍّ على إجهاض حلمه، عبر إعادة إنتاج النظام القديم دون كثير من المساحيق. مهمّتهم الأساسية هي تدوير ماكينة الاستبداد مرةً أخرى، باستبدال الرأس والإبقاء على الجسد: من عمر البشير إلى عبد الفتاح البرهان!
لقد خسرت الثورة الكثير، وخسر السودان أكثر، لكن ما لم يُهزم هو وعي الشعب مهما تم تضليله مؤقتًا.
فالثورة لا تموت، وإن تعرّضت للخديعة مؤقتًا، ولا تُهزم، وإن انكفأت تحت ضربات التآمر والبطش والحرب.
ما نراه اليوم من مسرحياتٍ سياسية رخيصة ليس سوى فصلٍ عابرٍ في معركةٍ طويلة، ستظل فيها الكلمة الأخيرة لأولئك الذين نذروا أنفسهم للحرية، والعدالة، والسلام، لا للزيف، ولا لحكم الديكور، ولا للاستعباد باسم الدين والجيش!
إن الأرض يرثها الصالحون.